كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

{ما آتيناكم} من الكتاب {بقوّة} بجدّ وعزيمة {واذكروا ما فيه} بالعمل فيه أو تفكروا فيه فإنه تذكر بالقلب كما أنّ الدرس ذكره باللسان أو ادرسوه ولا تنسوه {لعلكم تتقون} لكي تتقوا النار أو المعاصي.
{ثم توليتم} أعرضتم عن الوفاء بالميثاق {من بعد ذلك} أي: بعد أخذه {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي: بتوفيقكم للتوبة أو بالإمهال وتأخير العذاب عنكم أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه {لكنتم من الخاسرين} أي: من المغبونين بالانهماك في المعاصي أو بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة.

تنبيه: لو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره فإذا دخل على لا أفاد إثباتاً أو هو امتناع الشيء لثبوت غيره والاسم الواقع بعده عند سيببويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسدّه وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف.
{ولقد علمتم} اللام موطئة للقسم أي: عرفتم {الذين اعتدوا} تجاوزوا الحدّ {منكم في السبت} بصيد السمك وذلك أنهم كانوا زمن داود عليه الصلاة والسلام بأرض يقال لها إيلة حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه حتى لا يرى الماء من كثرتها فإذا مضى تفرّقت ولزمت قعر البحر فذلك قوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} (الأعراف، 163) ثم إنّ الشيطان وسوس إليهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها فإذا كان يوم الأحد أخذوها فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأكلوا وملحوا وباعوا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفاً فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار {فقلنا لهم} لإصرارهم على المعصية {كونوا قردة خاسئين} أي: مبعدين فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم فلما أبطؤوا تسوروا على الحائط فإذا هم جميعاً قردة لها أذناب يتعاوون، قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث ممسوخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا، وقال مجاهد: ما مسخت صورتهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار كما في قوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} (الجمعة، 5) رواه عنه ابن جرير وردّه وقال: إنه مخالف لظاهر القرآن
والأحاديث والآثار وإجماع المفسرين وقوله تعالى: {كونوا} ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه وإنما المراد به سرعة التكوين وإنهم صاروا كذلك كما أراد بهم.l
{فجعلناها} أي: تلك العقوبة {نكالاً} أي: عبرة تنكل المعتبر بها أي: تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع {لما بين يديها وما خلفها} أي: للأمم التي في زمانها وبعدها أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد

الصفحة 67