كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

بها إلى أمّه فقالت له: إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليري خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيراً، فقال الملك له: بكم تبيع هذه البقرة؟ فقال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي، فردّها إلى أمّه وأخبرها بالثمن، فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأمرت أمّك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال الملك: إني أعطيك اثني عشر ديناراً على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع
إلى أمّه

وأخبرها بذلك، فقالت: إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال الملك له: اذهب إلى أمّك وقل لها: امسكي هذه البقرة فإنّ موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها ـ أي: جلدها ـ ذهباً دنانير فأمسكوها وقدّر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه تعالى ورحمة فذلك قوله عز وجل:

{س2ش68/ش71 قَالُوا? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ? قَالَ إِنَّهُ? يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ s فَارِضٌ وَبِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَالِكَ? فَافْعَلُوا? مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا? قَالَ إِنَّهُ? يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ? يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ s ذَلُولٌ تُثِيرُ ا?رْضَ وَتَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ s شِيَةَ فِيهَا? قَالُوا? الْـ?َانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ? فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا? يَفْعَلُونَ}
{قالوا ادع لنا ربك يبيّن لها ما هي} أي: ما سنها وكان من حقه أن يقولوا أيّ بقرة هي أو كيف هي لأن لفظ ما يسأل به عن الجنس غالباً لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله {قال} موسى {إنه} أي ربي {يقول إنها بقرة لا فارض} أي: مسنة، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي: قطعته وبلغت آخره {ولا بكر} أي: صغيرة {عوان} أي: نصف أي: وسط قال الشاعر:
*نواعم بين أبكار وعون
جمع عوان {بين ذلك} أي: بين ما ذكر من الفارض والبكر.
فإن قيل: بين يقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك؟ أجيب: بأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر كما تقرّر وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنّ المراد بها معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب بالأمر ومن أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من جانب البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ويلزمه النسخ قبل الفعل فإن التخصيص إبطال التخيير الثابت بالنص والحق جواز تأخير البيان عن الوقت المذكور والنسخ قبل الفعل ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام: لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وتقريعهم بالتمادي وزجرهم عن المراجعة بقوله: {فافعلوا ما تؤمرون} به من ذبحها.
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال} موسى {إنه} أي: ربي {يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} أي: شديد الصفرة ولذلك تؤكد به الصفرة فيقال: أصفر فاقع كما يقال: أسود حالك، وعن الحسن: سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى: {جمالات صفر} (المرسلات، 33) قال البيضاويّ: ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنه من مقدّماته، قال البغويّ: والأوّل أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال: أصفر

الصفحة 69