كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وقوله تعالى: {استكبرتم} أي: تكبرتم عن اتباعه، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ {ففريقاً} أي: طائفة {كذبتم} كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل {وفريقاً تقتلون} كزكريا ويحيى عليهما السلام.
فإن قيل: هلا قال: وفريقاً قتلتم؟ أجيب: بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري: أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي: الآن، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، وقال صلى الله عليه وسلم عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري» .

{وقالوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً: {قلوبنا غلف} جمع أغلف أي: مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جئت به ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهم: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت، 5) ، وقيل: أصل غلف بالسكون غلف بالضم فخفف، والمعنى أنها أوعية العلم لا تسمع علماً إلا وعته ولا تعي ما تقول أي: فما تقوله ليس بعلم أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، ثم ردّ الله تعالى عليهم أن تكون قلوبهم كذلك بقوله تعالى: {بل} للإضراب {لعنهم الله بكفرهم} أي: بسبب كفرهم، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكنّ الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم كما قال تعالى: {فأصمهم وأعمى أبصارهم} أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك {فقليلاً ما يؤمنون} ما مزيدة لتأكيد القلة أي: إيمانهم إيمان قليل جدّاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل: أراد بالقلة العدم.
{س2ش89/ش91 وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا? مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا? فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا? كَفَرُوا? بِهِ?? فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا? بِهِ?? أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا? بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ? عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ?? فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ? وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُوا? بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا? نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ? وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ? قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَن?بِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
{ولما جاءهم كتاب من عند الله} هو القرآن {مصدّق لما معهم} من كتابهم وهو التوراة لا يخالفه {وكانوا} أي: اليهود {من قبل} أي: من قبل مجيئه {يستفتحون} أي: يستنصرون {على الذين كفروا} أي: مشركي العرب إذا قابلوهم يقولون: اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته ونعته في التوراة ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم {فلما جاءهم} أي: اليهود {ما عرفوا} من الحق وهو بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم {كفروا به} حسداً أو خوفاً على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب لما الثانية {فلعنة الله} أي: عذابه وطرده {على الكافرين} أي: عليهم، وإنما أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للعموم ويدخلون فيه دخولاً أولياً أو قصدياً لأنهم المقصودون بالذات وتناول الكلام لغيرهم على سبيل التبع فهو كما إذا ظلمك إنسان فقلت: ألا لعنة الله على الظالمين كان ذلك الظالم أوّلياً أو مقصوداً في الدعاء والباقون تبعاً.
{بئس ما اشتروا} أي: باعوا {به أنفسهم} أي: حظها من الثواب، وما نكرة بمعنى شيئاً مميزة لفاعل بئس المستكن أي: بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم {أن يكفروا} أي: كفرهم {بما أنزل الله} من القرآن {بغياً} أي: حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علة يكفروا ـ كما قال البيضاوي ـ دون اشتروا، وإن قاله الزمخشري لفصل المخصوص بين {بغياً} الذي هو العلة وبين المعلول وهو {اشتروا} . وحسدوه على {أن ينزل الله من فضله} أي: الوحي {على من يشاء} للرسالة

الصفحة 76