كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} أي: خاصة {من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} في قولكم وذلك أنّ اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} (البقرة، 80) {ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} (البقرة، 111) وقولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} (المائدة، 18) فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال: قل لهم يا محمد ذلك لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب. كما روي عن المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم فقد كان علي رضي الله تعالى عنه يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن: ما هكذا نرى المحاربين، فقال له: يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال: حبيب ـ أي: الموت ـ جاء على فاقة، أي: وقت حاجتي إليه. وقيل: بل أراد بالحبيب لقاء الله لا أفلح من ندم يعني على التمني أراد به أنه كان يتمنى الموت وما ندم على التمني حين جاء الموت. وقال عمار بصفين: الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه. وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحن إليه.

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلا مات» .
تنبيه: خالصة نصبها على الحال من الدار، أو من الضمير في خبر كان العائد إلى الدار، وتعلق بتمنوا الشرطان على أنّ الأوّل قيد في الثاني.
{ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم} من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان، ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة كما هنا وعن القدرة أخرى كما في قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} (الفتح، 10) وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان أخبر به كقوله تعالى: {ولن تفعلوا} (البقرة، 24) .
فإن قلت: من أعلمك أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل ذلك.

فإن قيل: التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنّ التمني ليس من أعمال القلوب إنما هو قول الانسان بلسانه: ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا: تمنى. وليت كلمة تمنّ ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا: قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك.
فإن قيل: لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون أجيب: بأنه كم حكي عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب الصرف ولم يبالوا فكيف يمنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وأخبارهم عن ضمائرهم وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كذباً لأنه أمر خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه {وا عليم بالظالمين} أي: الكافرين فيجازيهم في ذلك فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم.
{ولتجدنهم} اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره: والله لتجدنهم يا محمد

الصفحة 78