كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال: أصبتما الخير وأفلحتما» .
{ودّ} أي: تمنى {كثير من أهل الكتاب} من اليهود {لو يردونكم} أي: يردّوكم يا معشر المؤمنين فلو مصدرية بمعنى إن، فإنّ لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ {من بعد إيمانكم كفاراً} مرتدّين وقوله: {حسداً} مفعول له كائناً {من عند} أي: من تلقاء {أنفسهم} أي: لم يأمرهم الله بذلك وإنما حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة {من بعدما تبين لهم} في التوراة {الحق} في شأن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم {فاعفوا} عنهم أي: اتركوهم {واصفحوا} أي: أعرضوا عنهم فلا تجازوهم وكان هذا قبل آية القتال، ولهذا قال تعالى: {حتى يأتي الله بأمره} فيهم من القتال وقد أذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} الآية (التوبة، 29) ، وأبى النسخ جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأنّ الله تعالى لم يأمر بالعفو والصفح مطلقاً وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف ما قبلها وما هذا سبيله لا يكون من باب النسخ بل يكون الأوّل قد انقضت مدّته والآخر يحتاج إلى حكم آخر {إنّ الله على كل شيء قدير} فهو يقدر على الانتقام من الكفار:

وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} عطف على قوله: فاعفوا كأنه تعالى أمرهم بالصبر والمخالفة واللجوء إليه بالعبادة والبرّ {وما تقدّموا لأنفسكم من خير} أي: طاعة كصلاة وصدقة {تجدوه} أي: ثوابه {عند الله} فيجازيكم به {إنّ الله بما تعملون بصير} لا يضيع عنده عمل عامل.
{وقالوا} أي: كثير من أهل الكتاب من اليهود والنصارى {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} جمع هائد كعائد وعود {أو نصارى} قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية، فجمع الله بين القولين ثقة بأنّ السامع يرد إلى كلّ فريق قوله وأمنا من الالباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كلّ واحد منهما لصاحبه ونحوه {تلك} أي: القولة {أمانيهم} أي: شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله تعالى بغير حق {قل} لهم يا محمد {هاتوا برهانكم} أي: حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة {إن كنتم صادقين} في دعواكم إذ كل قول لا دليل عليه فهو غير صحيح وهذا متصل بقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتلك أمانيهم اعتراض وقوله تعالى:

{بلى} إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة {من أسلم وجهه} أي: انقاد لأمره وخص الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة فغيره أولى {وهو محسن} في عمله وقيل: مخلص وقيل: مؤمن {فله أجره} أي: ثواب عمله ثابتاً {عند ربه} لا يضيع ولا ينقص والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الردّ بقوله: بلى وحده ويحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله: من أسلم فاعل فعل مقدّر مثل بلى يدخلها من أسلم فلا يحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله فله أجره عند ربه كلاماً معطوفاً على يدخلها من أسلم {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في الآخرة.

ولما قدم نصارى نجران

الصفحة 86