كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

باتباعه {قال} إبراهيم صلى الله عليه وسلم {ومن ذريتي} أي: أولادي أجعل أئمة يقتدى بهم في الخير {قال} الله تعالى: {لا ينال} أي: لا يصيب {عهدي} بالإمامة {الظالمين} منهم ففي ذلك إجابة إلى مطلوبه.
وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وإنهم لا ينالون الإمامة؛ لأنها إمامة من الله تعالى وعهد، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة والأتقياء منهم وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوّة وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدّم للصلاة، وقرأ حفص وحمزة عهدي بسكون الياء وفتحها الباقون، ومن سكن الياء أسقطها في الوصل لفظاً لالتقاء الساكنين.
{و} اذكر {إذ جعلنا البيت} أي: الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا وأدغم أبو عمرو وهشام ذال إذ في الجيم وأظهرها الباقون {مثابة} أي: مرجعاً {للناس} من الحجاج والعمار وغيرهم يثوبون إليه من كل جانب {وأمناً} أي: مأمناً لهم من الظلم وإيذاء المشركين والإغارة الواقعة في غيره قال تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت، 67) كان الجاني يأوي إليه فلا يتعرّض له حتى يخرج وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط، فلا ينافي ذلك الوقوع، قال القاضي أبو يعلى وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم كما قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} (المائدة، 95) والمراد الحرم كله؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وهذا أمر استحباب ومقامه الحجر وهو بفتح الحاء والجيم الذي فيه أثر قدميه كان يقوم عليه عند بناء البيت أو عند دعاء الناس إلى الحج وهو موضعه اليوم.
روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر فقال: «هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت» وعن ابن عباس أنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: وافقت الله تعالى في ثلاث، ووافقني ربي في ثلاث فقلت: يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر لو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وقال: وبلغني معاتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهنّ وقلت لهنّ: إن انتهيتن أو ليبدلنّ الله تعالى لرسوله خيراً منكنّ فأنزل الله تعالى {عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ} (التحريم، 5) .
وفي الخبر الركن والمقام يا قوتتان من يواقيت الجنة ولولا ما مسهما من أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب» وقيل: المراد باتخذوا إلخ.. الأمر بركعتي الطواف لما روى جابر «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» ، وللشافعيّ في وجوبهما قولان أرجحهما عدم الوجوب وقيل: مقام إبراهيم الحرم كله وقيل: مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرّب إلى الله تعالى.
تنبيه: من في {من مقام إبراهيم} للتبعيض.
وقيل: بمعنى في وقيل زائدة وقرأ نافع وابن عامر واتخذوا بفتح الخاء بلفظ الماضي عطفاً على جعلنا أي: واتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى والباقون بكسرها بلفظ الأمر {وعهدنا} أي: أمرنا {إلى إبراهيم وإسمعيل} قيل: سمي به؛ لأنّ إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول: اسمع يا إيل، وإيل هو الله فلما رزق الولد سماه به {أن} أي: بأن {طهرا بيتي}

الصفحة 91