كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وإرشاداً لذرّيتهما أو لما سلف منهما سهواً قبل النبوّة {إنك أنت التوّاب} لمن تاب {الرحيم} به.

{ربنا وابعث فيهم} أي: الأمة المسلمة من ذرّية إبراهيم وإسمعيل {رسولاً منهم} أي: من أنفسهم.
روي أنه قيل له: قد استجيب لك وهو في آخر الزمان، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم إذ لم يبعث من ذرّيتهما غير محمد صلى الله عليه وسلم إذ لم يأت نبيّ من ولد إسمعيل إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم والكل من ولد إسحق، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام: «إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأوّل أمري أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أميّ التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام» وأراد بدعوة إبراهيم هذا.

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين {يتلو} أي: يقرأ {عليهم آياتك} القرآن ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوّة {ويعلمهم الكتاب} أي: القرآن {والحكمة} أي: ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام، وقال ابن قتيبة: هي العلم والعمل ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما.
وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، وقيل: هي فهم القرآن، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: السنة {ويزكيهم} أي: يطهرهم من الشرك وقيل: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذ اشهدوا هم للأنبياء بالتبليغ والتعديل {إنك أنت العزيز} الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد، وقيل: هو الذي لا يوجد مثله وقيل: هو المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء {الحكيم} في صنعه.
{ومن} أي: لا {يرغب} أحد {عن ملة إبراهيم} فيتركها لظهورها ووضوحها {إلا من سفه نفسه} أي: جهل أنها مخلوقة لله تعالى يجب عليه عبادته، وذلك أنّ عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أنّ الله عز وجل قال في التوراة: إني باعث من ولد إسمعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله البيضاوي وغيره.

قال السيوطي: لم أقف على ذلك في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المسندة والمثبت مقدّم على غيره وقد جاء: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وفي الأخبار أنّ الله أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: اعرف نفسك واعرفني فقال: يا رب كيف أعرف نفسي وأعرفك؟ فأوحى الله تعالى إليه: اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوّة والبقاء، وهذا معنى من عرف نفسه فقد عرف ربه {ولقد اصطفيناه} أي: اخترناه {في الدنيا} بالرسالة والخلة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} الذين لهم الدرجات العلا وفي هذا حجة وبيان لخطأ من رغب عن ملته؛ لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين وكان مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقاً بالاتباع لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.
تنبيه: قال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.
وقوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} إمّا ظرف

الصفحة 94