كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

لاصطفيناه أي: اخترناه في ذلك الوقت، وإمّا منصوب بإضمار أذكر كأنه قال: اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدّم وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين دعاه ربه فكأنه قال له كما قال عطاء: أسلم نفسك إلى الله عز وجل وفوّض أمرك إليه قال: أسلمت أي: فوّضت، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.

{ووصى بها} أي: بالملة المتقدّم ذكرها أو بأسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة وقيل: بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله، وقرأ نافع وابن عامر وأوصى بسكون الواو الثانية وهمزة مفتوحة بين الواوين، والباقون بواوين مفتوحتين ولا همزة بينهما وهذا أبلغ قال الزجاج: لأنّ أوصى يصدق بالمرة الواحدة، ووصى لا يكون إلا لمرّات كثيرة، وأمال ورش بينَ بينْ، وحمزة والكسائي محضة، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {إبراهيم بنيه} قال مقاتل: وهم أربعة: إسمعيل وإسحق ومدين ومدان، وقد ذكر غير مقاتل أنهم ثمانية وقيل: أربعة عشر {و} وصى بها أيضاً {يعقوب} بنيه وهم اثنا عشر: روبيل وشمعون ولاوا ويهوذا ويشنيوخور وزبويلون وودّان ويفتوني وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف وسمي بذلك؛ لأنه والعيص كانا توءمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب عقبه، وقوله تعالى: {يا بنيّ} على إضمار القول عند البصريين متعلق بوصّى عند الكوفيين {إنّ الله اصطفى لكم الدين} أي: دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى: {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادقة الموت، وعن الفضيل بن عياض أنه قال: إلا وأنتم مسلمون أي: محسنون بربكم الظن لما روى جابر رضي الله عنه أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتنّ أحد إلا وهو يحسن الظن بربه» .
ولما قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل.
{أم كنتم شهداء} جمع شهيد بمعنى الحاضر أي: ما كنتم حاضرين وقول الأسيوطي: لم أقف على ذلك فيه ما مرّ {إذ حضر يعقوب الموت} أي: حين احتضر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى: {إذ} بدل من إذ قبله {قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} أي: بعد موتي أي: أيّ شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات فليس الاستفهام على حقيقته قال عطاء: إنّ الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الموت والحياة فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك} وقوله تعالى: {إبراهيم وإسمعيل وإسحق} عطف بيان لآبائك وجعل إسمعيل وهو عمه من جملة آبائه تغليباً للأب إسحق والجدّ إبراهيم أو لأن العم أب والخالة أمّ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «عم الرجل صنو أبيه» أي: لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنو النخلة وقال في العباس: هذا بقية آبائي وقال: ردوا عليّ أبي فإني أخشى أن تفعل بي قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن

الصفحة 95