كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

إليهم كما أنّ القرآن منزل إلينا {وما أوتي موسى} من التوراة {و} ما أوتي {عيسى} من الإنجيل.
فإن قيل: لم أفرد التوراة والإنجيل بحكم أبلغ وهو الإيتاء؛ لأنه أبلغ من الإنزال لكونه مقصوداً منه ولم يقل والأسباط وموسى وعيسى أجيب: بأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق والنزاع وقع فيهما فلهذا أفردا بالذكر {وما أوتي} أي: أعطى {النبيون} أي: المذكورون {من ربهم} من الكتب والآيات، وقرأ نافع بالهمزة، والباقون بالياء، ولورش في الهمز المدّ والتوسط والقصر {لا نفرق بين أحد منهم} كاليهود والنصارى فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بجميعهم.
فإن قيل: كيف صح إضافة بين إلى أحد وهو مفرد؟ أجيب: بأنه في معنى الجماعة وعلله السعد التفتازاني بأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث قال: ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب {ونحن له} أي: لله {مسلمون} أي: مذعنون أي: مخلصون.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» الآية.
وقوله تعالى: {فإن آمنوا} أي: اليهود والنصارى {بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} من باب التعجيز والتبكيت كقوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23) لأنّ دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران، 85) وأمّا أن مثل صلة أي: آمنوا بما آمنتم به كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} (الشورى، 11) أي: ليس كهو شيء وكما في قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} (الأحقاف، 10) أي: عليه وقيل: الباء صلة كما في قوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} (مريم، 25) وقيل: معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا.

{وإن تولوا} أي: أعرضوا عن الإيمان به {فإنما هم في شقاق} أي: في خلاف ومنازعه معكم يقال شاق مشاقة إذا خالف كان كل واحد من المتخالفين يحرص على كل ما يشق على صاحبه {فسيكفيكم الله} يا محمد شقاقهم في ذلك تسلية وتسكين للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصر على من عاداهم وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وقوله تعالى: {وهو السميع العليم} إما من تمام الوعد بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة، وإمّا وعيد للمعرضين بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه ولا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً.
أي: دينه الذي فطر الناس عليه بظهور أثره على صاحبه كالصبغ للثوب أو للمشاكلة، فإنّ النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودية ويقولون هو تطهير لهم مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله وصبغَنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيركم، أو يقول المسلمون: صبغَنا الله بالإيمان صبغة ولا نصبغ صبغتكم وهو مصدر مؤكد لآمنا ونصبه بفعل مقدر أي: صبغنا الله تعالى وقيل: نصب على البدل من ملة إبراهيم وقيل: نصب على الإغراء {ومن} أي: لا أحد {أحسن

الصفحة 97