كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

أحلامهم {من الناس} وهم اليهود؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ {ما ولاهم} أي: أيّ شيء صرف النبيّ والمؤمنين {عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي بيت المقدس وقيل: هم المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، وقيل: المشركون قالوا قد تردّد على محمد أمره واشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب.
فإن قيل: ما فائدة الإخبار بذلك قبل وقوعه أجيب: بأن فائدة توطين النفس وإعداد الجواب، فإنّ مفاجأة المكروه أشدّ والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع وقبل الرمي يراش السهم، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان مأخوذة من الاستقبال، وصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة قال الله تعالى {قل} لهم يا محمد {المشرق والمغرب} أي: الجهات كلها ملكاً والخلق عبيده لا يختص به مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه {يهدي من يشاء} هدايته {إلى صراط} أي: طريق {مستقيم} وهو ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
وقوله تعالى: {وكذلك} الكاف فيه للتشبيه أي: كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم {جعلناكم} يا أمة محمد {أمة وسطاً} أي: خياراً عدولاً قال تعالى: {قال أوسطهم} (القلم، 28) أي: خيرهم وأعدلهم، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة.
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان فقال: أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل» وقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} أي: يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم {ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي: يزكيكم ويشهد بعدالتكم علة للجعل أي: لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد ولا ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم.
روي أن الله تعالى يجمع الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير، فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين علموا أنهم قد بلغوا، وإنما أتوا بعدنا فتسأل هذه الأمة، فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق، على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد

الصفحة 99