كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (اسم الجزء: 1)

إنْ فَقَدَ مَاءً) أَيْ يَتَوَضَّأُ بِسُؤْرِهِمَا وَيَتَيَمَّمُ إنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُمَا مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّيَمُّمِ مَعَهُ لِيَرْتَفِعَ الْحَدَثُ بِيَقِينٍ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَيًّا قَدَّمَ صَحَّ) أَيْ بِأَيِّ الطَّاهِرَيْنِ بَدَأَ جَازَ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجُوزُ الْبُدَاءَةُ بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ وَاجِبِ الِاسْتِعْمَالِ فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَاءَ إنْ كَانَ طَهُورًا فَلَا مَعْنَى لِلتَّيَمُّمِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فَالْمُطَهِّرُ هُوَ التَّيَمُّمُ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَوُجُودُ هَذَا الْمَاءِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُطَهَّرِ مِنْهُمَا عَيْنًا وَلَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ سُؤْرَ الْحِمَارِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مَضَى فِيهَا فَإِذَا فَرَغَ تَوَضَّأَ بِهِ وَأَعَادَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا يُعِيدُهَا لِاحْتِمَالِ الْبُطْلَانِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (بِخِلَافِ نَبِيذِ التَّمْرِ) أَيْ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ بَلْ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى نُوحٌ رُجُوعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ إنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتُهُ لِاخْتِلَافِ أَسْئِلَتِهِمْ فَسُئِلَ مَرَّةً إنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا فَقَالَ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ وَمَرَّةً إنْ كَانَتْ الْحَلَاوَةُ غَالِبَةً عَلَيْهِ، فَقَالَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَمَرَّةً إذَا لَمْ يَدْرِ أَيَّهُمَا الْغَالِبُ فَقَالَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ النَّقْلِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا، وَحَدِيثُ لَيْلَةِ الْجِنِّ يُوجِبُ الْوُضُوءَ بِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا وَلِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ اضْطِرَابًا وَفِي التَّارِيخِ جَهَالَةً فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
بَيَانُ الِاضْطِرَابِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَشَنَّعَ مُحَمَّدٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ أَثَرٌ، وَيَمْنَعُهُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْأَثَرُ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَنَبِيذُ التَّمْرِ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْمَ الْمَاءِ وَلَمْ يَجُزْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَصَارَ كَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ كَانَ مَنْسُوخًا بِآيَةِ التَّيَمُّمِ لِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَلَيْلَةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ أَمَعَك مَاءٌ فَقُلْت لَا إلَّا نَبِيذَ التَّمْرِ فِي إدَاوَةٍ فَقَالَ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ فَتَوَضَّأَ بِهِ» وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ كَوْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كُنْت مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَيَكُونُ الْإِثْبَاتُ أَوْلَى مِنْ النَّفْيِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ فَارَقَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ خِطَابِ الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي أُمِرْت أَنْ أَقْرَأَ عَلَى إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ لِيَقُمْ مَعِي رَجُلٌ مِنْكُمْ وَلَا يَقُمْ مَعِي مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ فَقُمْت مَعَهُ حَتَّى إذَا بَرَزْنَا خَطَّ حَوْلِي خِطَّةً ثُمَّ قَالَ لِي لَا تَخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّك إنْ خَرَجْت مِنْهَا لَمْ تَرَنِي وَلَمْ أَرَك إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى فَثَبَتُّ قَائِمًا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ قَالَ مَالِي أَرَاك قَائِمًا قُلْت مَا قَعَدْت خَشْيَةَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا فَسَأَلَنِي عَنْ الْمَاءِ» الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرٍ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ «وَهُوَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ إنَّهَا رِجْسٌ»، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَدَعْوَاهُمْ النَّسْخَ فَلَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ بِهِ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ غَيْرَ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ بِيَقِينٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ قُلْنَا هُوَ مَاءٌ شَرْعًا أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَاءٌ طَهُورٌ» أَيْ شَرْعًا فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] أَيْ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَلَوْ وَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالْمَاءَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ وَالتُّرَابَ يَتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ لَا غَيْرُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَالتَّيَمُّمِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالْوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْغَايَةِ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالسُّؤْرِ؛ لِأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَأَيًّا قَدَّمَ صَحَّ) وَلَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أَهْرَقَ سُؤْرَ الْحِمَارِ يَلْزَمُهُ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ كَانَ طَهُورًا. اهـ. فَتَاوَى خَانْ وَالْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ الْمَاءِ لِيَخْرُجَ عَنْ الْخِلَافِ وَلِمُرَاعَاةِ وُجُودِ صُورَةِ الْمَاءِ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ) وَفِي النِّهَايَةِ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ أَنْ لَا يَخْلُوَ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُمَا حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ بِالسُّؤْرِ، وَصَلَّى ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ جَازَ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا فِي الْمُجْتَبَى فَإِنْ قِيلَ هَذَا الطَّرِيقُ يَسْتَلْزِمُ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فِي إحْدَى الْمَرَّتَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُفْرِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، وَيَجِبُ الْجَمْعُ فِي أَدَاءً وَاحِدٍ قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا أَدَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ بِيَقِينٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ أَدَاؤُهُ بِطَهَارَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَلَا لِانْتِفَاءِ الِاسْتِخْفَافِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِالشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السُّؤْرِ وَالتُّرَابِ مُطَهِّرٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ الْأَدَاءُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكُفْرُ كَمَا لَوْ صَلَّى حَنَفِيٌّ بَعْدَ الْفَصْدِ أَوْ الْحِجَامَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا يُكْفَرُ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا أَوْلَى بِخِلَافِ مَا لَوْ صَلَّى بَعْدَ الْبَوْلِ. اهـ. يَحْيَى.
(قَوْلُهُ يَتَيَمَّمُ) قَالَ قَاضِي خَانْ هُوَ الصَّحِيحُ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ) كَلَامُ الْمَاتِنِ فِيهِ إبْهَامٌ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ كَذَا بِخَطِّ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ قَارِئِ الْهِدَايَةِ اهـ قُلْت وَقَدْ قَالَ فِي الْوَافِي فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا نَبِيذَ التَّمْرِ تَيَمَّمَ فَقَطْ، وَلَا يَتَوَضَّأُ بِمَا سِوَى نَبِيذِ التَّمْرِ خِلَافًا لِلْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَجَرَى غَيْرُهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْقِيَاسِ. اهـ. كَافِي (قَوْلُهُ إنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ) كَذَا فِي مُسْوَدَّةِ الشَّارِحِ

الصفحة 35