كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

أبُدِّلت الدنيا أم صرت غريباً في بلدي؟
أمّا الخيامُ فإنها كخِيامِهم ... وأرى نساءَ الحيّ غيرَ نسائها
وطفت في هذه الشوارع المتشابهة أفتّش عن دمشق التي عرفتها وأحببتها. ومَن يعرف دمشق (تلك) ويملك نفسَه ألاّ يحبها؟ وطفقت أسأل المحسنين من المارّين: ألا مَن يدلّني على دار الحبيب؟ ولكن ما من مجيب.
حتى هبّت نسمة من جهتها شممت فيها طيبها، فهداني أريجها إلى مكانها. فإذا أنا في ساحة «المرجة»، تلك التي كانت طرف البلد فصارت وسط القديم منه؛ ذلك أن المدن كالناس تعيش وتموت، وتنمو وتشبّ، ثم تهرم وتشيخ، وربما ولدت طفلاً فكبر الطفل فزاحمها على مكانها وأزاحها عنه.
ودخلت سوق الحميدية الذي سارت بذكره -كما يُقال- الرّكبان، ولكن وقفَت فيه المشاة، وقفت فلم تتحرك إلاّ بمثل حركة «التصوير البطيء» في الأفلام. ورحت أزاحم، ونسيت أن الأيام لم تُبقِ لي كتفاً تشق الزحام وتطيق الصدام. غامرت ودخلت وصبرت، حتى إذا صرت عند السوق الذي يصل إلى خندق القلعة (قلعة دمشق التي لا تزال باقية سليمة) انحرفت يميناً فإذا أنا أمام مدرسة التجارة. وما مدرسة التجارة؟ إن هذا المكان أقدم وأكرم وأعظم. إن فيه مأثرة من أعظم المآثر في تاريخنا العلمي، بل في تاريخ العلم الإنساني؛ ها هنا كان أكبر مستشفى في الدنيا وأرقاه وأكمله، لم ينشأ مثله إلى عصره، هو البيمارستان النوري، أي المستشفى الذي أقامه السلطان نور الدين زنكي.

الصفحة 30