كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

صناديق ويُنزِلون صناديق وهم يصيحون ويصرخون.
فوقفت أنظر وفي العين عَبْرة وفي النفس عِبْرة. وتصورت أني أخرج من مكاني الذي أقف فيه ثم أنأى عنه، وانحصر ذهني في الماضي فتوهمت أنها تحققت خرافة «نفق الزمان» التي عرضها علينا الرائي هنا في يوم من الأيام: يدخل منه المرء فيسافر في الماضي يقف حيث شاء. فدخلت فإذا أنا أعود أدراجي أتخطى رقاب السنين، وأتقدّم ولكن إلى الوراء، أوغل في مسالك النفق والأيام تكرّ راجعة بي، حتى وقفت على أوائل سنة 1914.
ورأيت الدار تعود مثل مَعادي، فإذا هي كمثيلاتها من دور دمشق العِظام في تلك الأيام. الأرض تُفرَش بالحجر المنقوش والمرمر الصافي، والجدران تكتسي الرخامَ ذا الألوان والنقوش الروائع الحسان، وتتجدّد البركة ويعود إليها رواؤها ويجري فيها ماؤها، أما «القاعة» فيكون فيها مثل ما في «قاعات» الدور الكبار في الشام: «فِسْقِيّة»، وهي طبق من الرخام المجزّع والحجر المِزّي (نسبة إلى المزة في دمشق) منحوت بيدٍ صَناع مُقَرنَص الجوانب، ينصبّ فيها الماء من نوافير صغار ترسم خطوطها متعاطفاً بعضها على بعض يكون منها مثل القبة الصغيرة، إذا تكسرت عليها أشعة النور بدت كأن فيها ألفَي حجر من الألماس، ثم ينصبّ الماء من الجوانب إلى طبق مثله أكبر منه، وكذلك ينتقل الماء من طبق إلى طبق بأبرع صناعة وأجمل فنّ.
وفي هذه «القاعة» من هذا المنزل شيء لم أرَ مثله في غيره من دور دمشق الكبار. هو موقد (شومينه) من الرخام المتشابك

الصفحة 32