كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

فيها. تلك «بيوتنا هدمناها بأيدينا» (¬1). كانت جنّات تجري من تحتها الأنهار، كانت مَصيفاً وكانت مشتى. كان مَن فيها حرّاً، لا يرى حُرَم جار ولا يرى جارٌ حُرَمَه، فاستبدلنا بها صناديق من الإسمنت لا تدفع حرّ الصيف ولا برد الشتاء، من كان فيها رآه جاره وهو في فراشه ورأى هو الجار، إن ضحك أو بكى أو عطس سمعه من «المَنْوَر» كل سكان العمارة!
كانت بيوتنا من خارجها كأنها مستودَعات بضاعة أو مخازن تبن، فإذا دخلت فُتح لك باب إلى الجنة، بهاؤها لأهلها لا نافذة تُفتح على طريق، بل لقد أدركت عهداً في الشام: الدار التي يُفتح بابها على الجادّة يقلّ ثمنها، لأن الدار المرغوب فيها التي يكون بابها في «دخلة» أو «حارة».
وكانت نساؤنا كمنازلنا، يسترها عن العيون الحجاب السابغ فلا يبدو جمالها إلاّ لمن يحلّ له النظر إليها، فهُتكت الأستار عن المرأة وعن الدار! هذه هي الدور الشامية التي انتقل طرازها، لا إلى جيرانها، بل إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط (الذي كان يوماً بحيرة عربية، ولا تزال شواطئه أكثرها عربي وغالبها مسلم). إنها قفزت البحر بطوله لا بعرضه، إلى الأندلس ثم إلى المغرب.
* * *
ما الذي أريد أن أقوله بعد هذه المقدمة التي نويت أن أجعلها سطوراً فصارت صفحات، وغدت مقالة كاملة؟
¬__________
(¬1) هذا عنوان فصل، أو قصة حقيقية، في كتابي «من حديث النفس».

الصفحة 34