كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

عساكرهم تجول في طرق إسطنبول تنبّهَت الصليبية في نفس كاتب نصراني في الشام، فكتب متشفياً معرّضاً بالسلطان العظيم محمد الفاتح. وتألّم معروف كما تألّم المسلمون ولكنه ما تكلم، حتى إذا طُردوا من أزمير وعادت إلى الترك المسلمين، كتب مقالة تستحق أن تُسطّر -كما كان يقول الأوّلون- بماء الذهب، وقعت على قلوب المسلمين برداً وسلاماً وعلى قلوب «الآخرين ...» جمرة وضِراماً.
وكان في المدرسة أجهلَ الناس بالحساب، فلما كبر عُني به حتى أتقنه وصار من كبار الحاسبين، وبلغ من حذقه أنه حفظ عن ظهر قلب عدد أيام الأسبوع وشهور السنة، وأدرك عشر العشرة ومعشار المئة، وعرف قطر الدائرة وقاعدة المثلث، وصار يعرف أن ستة في سبعة تساوي سبعة وثلاثين، وفي رواية سبعة وأربعين، ولم يحقق أيها الصحيح منهما فالمسألة فيها قولان!
ولكنه لم يصل إلى معرفة الباقي من الريال (المجيدي) بعد شراء علبة الدخان، فكان يشتم البيّاع كل مرة عشرين شتيمة، منها أربع على الأقل من الشتائم المبتكَرة التي لم ينطق بها قبله أحدٌ من الهجّائين، لا الحطيئة ولا جرير ولا دعبل ولا المتنبي، ويتهمه بالسرقة والاحتيال، حتى يجتمع ثلاثة من المارة ويعدّوا القروش ثلاثاً من المرات، ويحلفوا له ثلاثاً من الأَيْمان على أن البياع لم يسرقه ولم يحتَلْ عليه.
وكان قليلَ البضاعة في الأدب العربي، ولكنه كان مطّلعاً على الأدب التركي، وكان آية في معرفة الأدب الفرنسي لا سيما شعر الحب والعاطفة، وكنت تسمع منه تلخيص قصيدة لموسّه

الصفحة 371