كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

لاأحسبك إلاّ وقد أتعبت العابدين بعدك؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قُلّة يبرد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك، مِطْهَرتك قلبك وقصعتك تَوْرك (¬1). داود! ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من الملبس ليّنه؟ بلى، ولكنْ زهدت فيه لما بين يديك. فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت في جنب ما أمّلت! فلما متّ شهَرك ربُّك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرّفك، فلتتكلم اليوم عشيرتُك بكل ألسنتها فقد أوضح ربك فضلها بك".
هذا هو الكلام السهل الممتنع، وهذا هو الأسلوب الذي يسهل نطقه على اللسان ويعذُب وقعه على الآذان ويدخل الجَنان بلا استئذان، أفندعه لتكلّف الصاحب، وتصنّع القاضي الفاضل، وألاعيب الألفاظ في مقامات الحريري؟
وإن كان ما يصف به داودَ (من ترك الملذّات وهجر الطيبات وحرمان النفس من جميع الرغبات) ليس هو الزهد المشروع وليس ممّا يأمر به الدين صفوةَ المؤمنين. {قُلْ مَن حَرّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ والطيّباتِ مِن الرزقِ؟}، {كُلوا من الطيّباتِ واعمَلوا صالحاً}.
وأفضل كتب المنتخَبات المدرسية التي أعرفها الكتابُ الذي وضعه لطلاب «ندوة العلماء» في الهند الصديقُ الأديب الداعية
¬__________
(¬1) التوْر إناء يُشرب به الماء

الصفحة 395