كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

فماذا كان لقب أسرتنا هناك؟
كان المدير هو أبي، فهل تحسبون أني كنت مدلَّلاً مكرَّماً لأني ابن المدير؟ لا والله، ولقد رأيت أول عهدي بها ما كرّه إليّ العلم وأهله، ولولا أنْ تداركني الله بغير معلمي الأول لما قرأتم لي صفحة كتبتها ولا سمعتم مني حديثاً أو خطاباً ألقيته، بل لما قرأت أنا كتاباً.
هذه القاعة التي وصفتها لكم بأنها من روائع فنّ العمارة والتي يأتي السيّاح للتفرّج برؤيتها، لبثت حيناً من دهري أرتجف من النظر إليها أو التفكر فيها. وكَلوا بنا معلّماً شيخاً كبيراً لا أسميه (¬1)، فقد ذهب إلى رحمة الله، فكان يحبسنا فيها ونحن أطفال، لا يدعنا نخرج منها حتى نكتب «ألف باء» كلها في ألواحنا الحجرية أربعاً وعشرين مرة، نكتبها ليراها وليمحوها ثم نكتبها ليراها ويمحوها، إلاّ أن يُضطَرّ أحدنا (أو يزعم أنه مضطرّ) إلى الخروج إلى المرحاض فيسمح له بدقائق، إن زاد عليها ازدادت عليه ضربات الخيزران. كنّا نكذب، نعم! أفليسوا هم الذين دفعونا إلى الكذب؟
كنت أنظر من شبّاك القاعة إلى التلاميذ يلعبون في الساحة الداخلية والطلاب الكبار يمشون في الصحن الكبير كما ينظر السجين إلى الطلقاء من طاقة السجن.
كانت هذه بدايتي، أنا ابن المدير العام. فهل يحمد اللهَ
¬__________
(¬1) وقد سمّاه خالد بك العظم في مذكّراته.

الصفحة 45