كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

تلاميذُ المدارس اليوم على ما يتمتعون به من نِعَم؟
وغاب الشيخ يوماً وجاؤونا بطالب كبير من طلاّب الفصول العالية، فوجدنا (للمرة الأولى) مدرّساً من بني آدم، يكلّمنا ونكلمه ويضحك في وجوهنا، وما كنت أعلم أن المعلم يستطيع أن يضحك!
هذا الطالب الشابّ الذي عرفته ولم يعرفني، لأن التلاميذ يعرفون معلمهم ولا يعرفهم كلهم، مرت عليّ وعليه الأيام، وصار صاحب مكتبة ولم ينقطع عن العلم، فوضع معجماً لألفاظ القرآن اسمه «المرشد»، ثم وضع معجماً للموضوعات مع صديق له من نوادر المكفوفين من الرجال، حافظ لكتاب الله أديب، ينظم الشعر ارتجالاً، عارف بالموسيقى ملحّن، يقرأ الكتابة الموسيقية (بالحروف البارزة) ويعزفها، وأمامه في مجلسه خرز صغير من كل الألوان في علب صغار يؤلّف منه بالإبرة والخيط صُوراً على القماش لو حاولها مبصر بعينيه وهو متفرغ لها لما استطاعها، يصنعها وهو يتكلّم معك أو يناقشك أو يُنشِدك الشعر وهو أعمى! وهو من نوادر العميان واسمه الشيخ عارف القلطقجي، وهو قريب في هذه المزايا من الرجل العجيب المشهور الشيخ عثمان الموصلي رحمهما الله.
وهذا كله استطراد، وقد أنذرتكم به من أول الحديث وسأعود إلى الكلام الأصلي: كنت أتكلم عن هذا الطالب الذي كان أول من ردّ إليّ ثقتي بالله ثم بنفسي، وحبي للدراسة، وقلت إنه وضع مع الشيخ عارف هذا معجماً آخر لموضوعات القرآن

الصفحة 46