كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

الأندلس، ممّن يدعونهم «الدونمة»، أضاعوا الدولة العثمانية التي كانت ثالثة الدولتين العظيمتين: الأموية والعباسية، والتي عاشت المدة الطويلة وفتحت بالإسلام وللإسلام الفتوح الجليلة، وكانت يوماً أقوى دول الأرض وملكها أكبر ملوكها.
فهدم هؤلاء ما بنى بنو عثمان، ونسوا (أو لم يعلموا) أن الإسلام لا يفرّق الناس للألسن ولا للألوان فأرادوا «تتريك» العناصر العثمانية، فبدؤوا -بهذا- الفتنةَ التي جعلت الأمة الواحدة، أمة محمد، هيئةَ أمم، حين قالوا «تُرك» فقال ناس منا «عرب» وقال الفرس وقال الأكراد، وكانت عودة إلى الجاهلية! مع أننا ما كنا نفرّق في معلمينا وفي رفاقنا بين عربي وتركي وكردي، ولا الإسلام يسمح لنا أن نفرّق. وقد ماتت الآن هذه الفتنة أو هي على سرير الاحتضار، وستلحق بها إن شاء الله أخواتها ولا تبقى إلا دعوة الإسلام.
كانت مدرستنا أهلية ولكنّا ذقنا -مع هذا- الكثير من الثمر المرّ لهذه الدعوة. كان عندنا معلمون من الأتراك، أما الديّن التقيّ منهم فينكر هذه التفرقة الجاهلية، وأما من كان غير ذلك فكان يؤيّدها. حتى قواعد اللغة العربية (النحو والصرف) درسناها آخر المدة على معلّم تركي، فكان يسأل الواحد منّا: «فاعل نِدِرْ؟» أي: ما هو الفاعل؟ وانتقل خوف جمال باشا من الكبار إلينا، فكان عندنا معلّم للموسيقى قالوا إنه نسيب الباشا، فكنا نخشى أن نكلمه.
* * *

الصفحة 54