كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

وأتى على الأخضر واليابس من زرعها، وكان شيئاً رهيباً. ولم تكُن يومئذٍ هذه المبيدات ولم يكُن شيء من هذه الوسائل التي قضت اليوم أو كادت على الجراد.
فبدأ القحط في البلد.
ثم سمعنا من أفواه الكبار كلاماً لم ندرك غوره، ولكن فهمنا من لهجة كلامهم ومن ملامح وجوههم ومن جزعهم أنه شيء مكروه مخيف. فهمنا أنها قامت حرب في مكان بعيد عنا، ليست كحرب البَسوس التي دامت (كما قالوا) أربعين سنة ولم تقع فيها إلا أربعون معركة ما زادت المعركة منها عن مناوشة خفيفة بين فصيلَين من الجنود. وأن هذه الحرب يموت في المعركة الواحدة منها ما يزيد مئة مرة عن كل الذين ماتوا في معارك الجاهلية كلها، بل والذين ماتوا في بدر وأحد والقادسية واليرموك.
سمعنا هذا فلم نبالِ به. ما لنا ولقوم لا نعرفهم ليسوا منا ولا نحن منهم، يتقاتلون في مكان لا نعرفه ولم نسمع به؟ حريق ولكن لم تمتدّ إلينا ناره ولم يلذعنا أُواره. ولكنا ما لبثنا إلا قليلاً حتى بلغَنا شرارُه وروّعتنا أخباره، حين كنت أمشي إلى المدرسة من داري في العقيبة فأرى الفرن مسدودةً واجهتُه بالخشب ما فيها إلا طاقة صغيرة، والناس يسدّون نصف عرض الطريق، يطلبون أرغفة من الخبز الأسود فلا يكادون يصلون إليها.
__________
= والأسد زئير، والذئب عُواء، والكلب نباح، إلخ. وقُل مثل ذلك في مساكن المخلوقات وأبنائها وسائر ما يتعلق بها. ومن قرأ «فقه اللغة» للثعالبي وجد من ذلك أعاجيب (مجاهد).

الصفحة 56