كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 1)

عليهم دينهم؛ لذلك فرحوا بما جاءهم من السعة بعد الضيق والسلام بعد الحرب، لم يستطيعوا أن يَزِنُوا ما كان بميزان الربح والخسارة ولا أن يتبيّنوا هل كان خيرُه أكبرَ أم شرُّه، ولم يتنبّهوا إلى أن عهداً قد انتهى وأن عهداً آخر قد بدأ.
سقوط روما كان نهاية القرون الأولى وبداية القرون الوسطى، ولكن هل معنى هذا أنه إذا كان سقوطها يوم الخميس، كان الأربعاء من القرون الأولى والجمعة من الوسطى؟ وإذا انتهى العصر الأموي بقتل مروان وولاية السفاح، فهل القصيدة التي نُظمت قبل مقتله بيوم لها مزايا وخصائص الشعر الأموي والتي نُظمت بعده بيوم لها خصائص ومزايا الشعر العباسي؟
التبدّل الآني ليس من سنن الله في هذا الوجود. الليل يكون أسود حالكاً ثم يكون بعده النهار أبيض مشرقاً، فهل تحوّل الظلام نوراً في لحظة أم الله يولج الليل في النهار؟ وكنتَ طفلاً ثم صرتَ شيخاً، فهل انتقلت في ساعة واحدة من الطفولة إلى الشباب أو من الشباب إلى الشيخوخة؟ وهل أحسست بهذا التبدل؟
راقب العقرب الصغير في الساعة، إنك لا تراه يتحرك، ولكنه مع سكونه الظاهر يدور دائرة الساعة كلها. وكذلك كنا ونحن نشهد ميلاد عهد جديد، العهد كان مخاضه عند بداية الحرب الأولى وولادته عند نهاية الحرب الثانية، ولكنا لم نحسّ بذلك لأننا كنا نعيش فيه.
إذا كنت في المصعد وهو مغلق عليك، فهل تحسّ بأنه ينزل أو يصعد؟ إنك تدرك حركته بعد أن تخرج منه وتقف فتنظر إليه.

الصفحة 71