كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 1)

معادا انْتهى وَهُوَ يَقْتَضِي أَنه لَا يتَعَمَّد أَن يخرج فِي كِتَابه حَدِيثا معادا بِجَمِيعِ إِسْنَاده وَمَتنه وَإِن كَانَ قد وَقع لَهُ من ذَلِك شَيْء فَعَن غير قصد وَهُوَ قَلِيل جدا سأنبه على موَاضعه من الشَّرْح حَيْثُ أصل إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما اقْتِصَاره على بعض الْمَتْن ثمَّ لَا يذكر الْبَاقِي فِي مَوضِع آخر فَإِنَّهُ لَا يَقع لَهُ ذَلِك فِي الْغَالِب إِلَّا حَيْثُ يكون الْمَحْذُوف مَوْقُوفا على الصَّحَابِيّ وَفِيه شَيْء قد يحكم بِرَفْعِهِ فَيقْتَصر على الْجُمْلَة الَّتِي يحكم لَهَا بِالرَّفْع ويحذف الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَا تعلق لَهُ بموضوع كِتَابه كَمَا وَقع لَهُ فِي حَدِيث هزيل بن شُرَحْبِيل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنهُ قَالَ إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يسيبون هَكَذَا أوردهُ وَهُوَ مُخْتَصر من حَدِيث مَوْقُوف أَوله جَاءَ رجل إِلَيّ عبد الله بن مَسْعُود فَقَالَ إِنِّي أَعْتَقَتْ عَبْدًا لِي سَائِبَةً فَمَاتَ وَترك مَالًا وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يسيبون فَأَنت ولي نعْمَته فلك مِيرَاثه فَإِن تَأَثَّمت وتحرجت فِي شَيْء فَنحْن نقبله مِنْك ونجعله فِي بَيت المَال فاقتصر البُخَارِيّ على مَا يُعْطي حكم الرّفْع من هَذَا الحَدِيث الْمَوْقُوف وَهُوَ قَوْله إِن أهل الْإِسْلَام لَا يسيبون لِأَنَّهُ يستدعى بِعُمُومِهِ النَّقْل عَن صَاحب الشَّرْع لذَلِك الحكم وَاخْتصرَ الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَيْسَ من مَوْضُوع كِتَابه وَهَذَا من أخْفى الْمَوَاضِع الَّتِي وَقعت لَهُ من هَذَا الْجِنْس وَإِذا تقرر ذَلِك اتَّضَح أَنه لَا يُعِيد إِلَّا لفائدة حَتَّى لَو لم تظهر لإعادته فَائِدَة من جِهَة الْإِسْنَاد وَلَا من جِهَة الْمَتْن لَكَانَ ذَلِك لإعادته لأجل مُغَايرَة الحكم الَّتِي تشْتَمل عَلَيْهِ التَّرْجَمَة الثَّانِيَة مُوجبا لِئَلَّا يعد مكررا بِلَا فَائِدَة كَيفَ وَهُوَ لَا يخليه مَعَ ذَلِك من فَائِدَة إسنادية وَهِي إِخْرَاجه للإسناد عَن شيخ غير الشَّيْخ الْمَاضِي أَو غير ذَلِك على مَا سبق تَفْصِيله وَهَذَا بَين لمن استقرأ كِتَابه وأنصف من نَفسه وَالله الْمُوفق لَا إِلَه غَيره
تَكُونَ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ وَقَعَتْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ هِيَ الْأَخِيرَةَ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مُصَيَّرٌ مِنَ الْبُخَارِيِّ إِلَى جَوَازِ الِاخْتِصَارِ فِي الْحَدِيثِ وَلَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَامًّا لِمَ خَرَمَهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَعَ أَنَّ الْخَرْمَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ قُلْتُ لَا جَزْمَ بِالْخَرْمِ لِأَنَّ الْمَقَامَاتِ مُخْتَلِفَةٌ فَلَعَلَّهُ فِي مَقَامِ بَيَانِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَاعْتِقَادِ الْقَلْبِ سَمِعَ الْحَدِيثَ تَامًّا وَفِي مَقَامِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْأَعْمَالِ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ سَمِعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي رُوِيَ ثُمَّ الْخَرْمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ لَا مِنْهُ ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَخَرْمُهُ ثَمَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَتِمُّ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَإِنْ قُلْتَ فَكَانَ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدِ الْخَرْمِ الشِّقَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِهِ وَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ قُلْتُ لَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ الْكَثِيرُ بَيْنَ النَّاسِ انْتَهَى وَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى هَذَا الحَدِيث وَلَا سِيمَا كَلَام بن الْعَرَبِيِّ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ تَامًّا تَارَةً وَغَيْرَ تَامٍّ تَارَةً إِنَّمَا هُوَ من اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ رَوَى مَا سَمِعَهُ فَلَا خَرْمَ مِنْ أَحَدٍ وَلَكِنَّ الْبُخَارِيَّ يَذْكُرُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُنَاسِبُ كُلًّا مِنْهَا بِحَسَبِ الْبَابِ الَّذِي يَضَعُهُ تَرْجَمَةً لَهُ انْتَهَى وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدٍ وَاحِدٍ مِنِ ابْتِدَائِهِ إِلَى انْتِهَائِهِ فَسَاقَهُ فِي مَوْضِعٍ تَامًّا وَفِي مَوْضِعٍ مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ فَلَا يَرْتَابُ مَنْ يَكُونُ الْحَدِيثُ صِنَاعَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِهِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فِي موضِعين عَلَى وَجْهَيْنِ بَلْ إِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَدٍ عَلَى شَرْطِهِ ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي بِالسَّنَدِ الثَّانِي وَهَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ يُعَلِّقُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ تَارَةً بِالْجَزْمِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا وَتَارَةً بِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا سَنَدٌ وَاحِدٌ يَتَصَرَّفُ فِي مَتْنِهِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَذْكُورٌ بِتَمَامِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِلَّا نَادِرًا فَقَدْ عَنِيَ بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ بِتَتَبُّعِ ذَلِكَ فَحَصَّلَ مِنْهُ نَحْوَ عِشْرِينَ مَوْضِعًا قَوْلُهُ هِجْرَتُهُ الْهِجْرَةُ التَّرْكُ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الشَّيْءِ الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ وَفِي الشَّرْعِ تَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ الِانْتِقَالُ مِنْ دَارِ الْخَوْفِ إِلَى دَارِ الْأَمْنِ كَمَا فِي هِجْرَتَيِ الْحَبَشَةِ وَابْتِدَاءِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ الثَّانِي الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهِ مَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِذْ ذَاكَ تَخْتَصُّ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَانْقَطع الِاخْتِصَاصِ وَبَقِيَ عُمُومُ الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَاقِيًا فَإِنْ قِيلَ الْأَصْلُ تَغَايُرُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا يُقَالُ مَثَلًا مَنْ أَطَاعَ أَطَاعَ وَإِنَّمَا يُقَالُ مَثَلًا مَنْ أَطَاعَ نَجَا وَقَدْ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُتَّحِدَيْنِ فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَايُرَ يَقَعُ تَارَةً بِاللَّفْظِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَتَارَةً بِالْمَعْنَى وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالحا فَإِنَّهُ يَتُوب إِلَى الله متابا وَهُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْهُودِ الْمُسْتَقِرِّ فِي النَّفس كَقَوْلِهِم أَنْت أَنْت أَيِ الصَّدِيقُ الْخَالِصُ وَقَوْلُهُمْ هُمْ هُمْ أَيِ الَّذِينَ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُمْ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي أَوْ هُوَ مُؤَوَّلٌ عَلَى إِقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ لِاشْتِهَارِ السَّبَبِ وَقَالَ بن مَالِكٍ قَدْ يُقْصَدُ بِالْخَبَرِ الْفَرْدِ بَيَانُ الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ فَيَتَّحِدُ بِالْمُبْتَدَأِ لَفْظًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ خَلِيلِي خَلِيلِي دُونَ رَيْبٍ وَرُبَّمَا أَلَانَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَظُنَّ خَلِيلًا وَقَدْ يُفْعَلُ مِثْلُ هَذَا بِجَوَابِ الشَّرْطِ كَقَوْلِكَ مَنْ قَصَدَنِي فَقَدْ قَصَدَنِي أَيْ فَقَدْ قَصَدَ مَنْ عُرِفَ بِإِنْجَاحِ قَاصِدِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ إِذَا اتَّحَدَ لَفْظُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ عُلِمَ مِنْهُمَا الْمُبَالَغَةُ إِمَّا فِي التَّعْظِيمِ وَإِمَّا فِي التَّحْقِيرِ قَوْلُهُ إِلَى دُنْيَا بِضَم الدَّال وَحكى بن قُتَيْبَةَ كَسْرَهَا وَهِيَ فُعْلَى مِنَ الدُّنُوِّ أَيِ الْقُرْبِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْأُخْرَى وَقِيلَ سُمِّيَتْ دُنْيَا لِدُنُوِّهَا إِلَى الزَّوَالِ وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا فَقِيلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ وَقيل كل الْمَخْلُوقَات من الْجَوَاهِر والاعراض وَالْأول أَوْلَى لَكِنْ يُزَادُ فِيهِ مِمَّا قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَجَازًا ثُمَّ إِنَّ لَفْظَهَا

الصفحة 16