كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 1)

من أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ فِي معرفَة الصَّحِيح والمعلل فَإِنَّهُم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ كَانَ أعلم أقرانه بعلل الحَدِيث وَعنهُ أَخذ البُخَارِيّ ذَلِك حَتَّى كَانَ يَقُول مَا استصغرت نَفسِي عِنْد أحد إِلَّا عِنْد عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَمَعَ ذَلِك فَكَانَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ إِذا بلغه ذَلِك عَن البُخَارِيّ يَقُول دعوا قَوْله فَإِنَّهُ مَا رأى مثل نَفسه وَكَانَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حَدِيث الزُّهْرِيّ وَقد اسْتَفَادَ مِنْهُ ذَلِك الشَّيْخَانِ جَمِيعًا وروى الْفربرِي عَن البُخَارِيّ قَالَ مَا أدخلت فِي الصَّحِيح حَدِيثا إِلَّا بعد أَن استخرت الله تَعَالَى وتيقنت صِحَّته وَقَالَ مكي بن عبد الله سَمِعت مُسلم بن الْحجَّاج يَقُول عرضت كتابي هَذَا على أبي زرْعَة الرَّازِيّ فَكل مَا أَشَارَ أَن لَهُ عِلّة تركته فَإِذا عرف وتقرر أَنَّهُمَا لَا يخرجَانِ من الحَدِيث إِلَّا مَا لَا عِلّة لَهُ أَو لَهُ عِلّة إِلَّا أَنَّهَا غير مُؤثرَة عِنْدهمَا فبتقدير تَوْجِيه كَلَام من انتقد عَلَيْهِمَا يكون قَوْله مُعَارضا لتصحيحهما وَلَا ريب فِي تقديمهما فِي ذَلِك على غَيرهمَا فيندفع الِاعْتِرَاض من حَيْثُ الْجُمْلَة وَأما من حَيْثُ التَّفْصِيل فالأحاديث الَّتِي انتقدت عَلَيْهِمَا تَنْقَسِم أقساما الْقسم الأول مِنْهَا مَا تخْتَلف الروَاة فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْص من رجال الْإِسْنَاد فَإِن أخرج صَاحب الصَّحِيح الطَّرِيق المزيدة وَعلله النَّاقِد بِالطَّرِيقِ النَّاقِصَة فَهُوَ تَعْلِيل مَرْدُود كَمَا صرح بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ فِيمَا سيحكيه عَنهُ فِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ لِأَن الرَّاوِي إِن كَانَ سَمعه فَالزِّيَادَة لَا تضر لِأَنَّهُ قد يكون سَمعه بِوَاسِطَة عَن شَيْخه ثمَّ لقِيه فَسَمعهُ مِنْهُ وَإِن كَانَ لم يسمعهُ فِي الطَّرِيق النَّاقِصَة فَهُوَ مُنْقَطع والمنقطع من قسم الضَّعِيف والضعيف لَا يعل الصَّحِيح وَسَتَأْتِي أمثله ذَلِك فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّامِن وَغَيرهمَا وَإِن أخرج صَاحب الصَّحِيح الطَّرِيق النَّاقِصَة وَعلله النَّاقِد بِالطَّرِيقِ المزيدة تضمن اعتراضه دَعْوَى انْقِطَاع فِيمَا صَححهُ المُصَنّف فَينْظر إِن كَانَ ذَلِك الرَّاوِي صحابيا أَو ثِقَة غير مُدَلّس قد أدْرك من روى عَنهُ إدراكا بَينا أَو صرح بِالسَّمَاعِ إِن كَانَ مدلسا من طَرِيق أُخْرَى فَإِن وجد ذَلِك انْدفع الِاعْتِرَاض بذلك وَإِن لم يُوجد وَكَانَ الِانْقِطَاع فِيهِ ظَاهرا فمحصل الْجَواب عَن صَاحب الصَّحِيح أَنه إِنَّمَا أخرج مثل ذَلِك فِي بَاب مَاله متابع وعاضد أَو مَا حَفَّتْهُ قرينَة فِي الْجُمْلَة تقويه وَيكون التَّصْحِيح وَقع من حَيْثُ الْمَجْمُوع كَمَا سنوضح ذَلِك فِي الْكَلَام على الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين من هَذِه الْأَحَادِيث وَغَيره وَرُبمَا علل بعض النقاد أَحَادِيث أدعى فِيهَا الِانْقِطَاع لكَونهَا غير مسموعة كَمَا فِي الْأَحَادِيث المروية بالمكاتبة وَالْإِجَازَة وَهَذَا لَا يلْزم مِنْهُ الِانْقِطَاع عِنْد من يسوغ الرِّوَايَة بِالْإِجَازَةِ بل فِي تَخْرِيج صَاحب الصَّحِيح لمثل ذَلِك دَلِيل على صِحَة الرِّوَايَة بِالْإِجَازَةِ عِنْده وَقد أَشَرنَا إِلَى ذَلِك فِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ وَغَيره الْقسم الثَّانِي مِنْهَا مَا تخْتَلف الروَاة فِيهِ بتغيير رجال بعض الْإِسْنَاد فَالْجَوَاب عَنهُ إِن أمكن الْجمع بِأَن يكون الحَدِيث عِنْد ذَلِك الرَّاوِي على الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فأخرجهما المُصَنّف وَلم يقْتَصر على أَحدهمَا حَيْثُ يكون المختلفون فِي ذَلِك متعادلين فِي الْحِفْظ وَالْعدَد كَمَا فِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ وَغَيره وَإِن أمتنع بِأَن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين فِي الْحِفْظ وَالْعدَد فَيخرج المُصَنّف الطَّرِيق الراجحة ويعرض عَن الطَّرِيق المرجوحة أَو يُشِير إِلَيْهَا كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِع عشر فالتعليل بِجَمِيعِ ذَلِك من أجل مُجَرّد الِاخْتِلَاف غير قَادِح إِذْ لَا يلْزم من مُجَرّد الِاخْتِلَاف اضْطِرَاب يُوجب الضعْف فَيَنْبَغِي الْإِعْرَاض أَيْضا عَمَّا هَذَا سَبيله وَالله أعلم الْقسم الثَّالِث مِنْهَا مَا تفرد بعض الروَاة بِزِيَادَة فِيهِ دون من هُوَ أَكثر عددا أَو أضبط مِمَّن لم يذكرهَا فَهَذَا لَا يُؤثر التَّعْلِيل بِهِ إِلَّا إِن كَانَت الزِّيَادَة مُنَافِيَة بِحَيْثُ يتَعَذَّر الْجمع إِمَّا إِن كَانَت الزِّيَادَة لَا مُنَافَاة فِيهَا بِحَيْثُ تكون كالحديث المستقل فَلَا اللَّهُمَّ إِلَّا إِن وضح بالدلائل القوية أَن تِلْكَ الزِّيَادَة مدرجة فِي الْمَتْن من كَلَام بعض رُوَاته فَمَا كَانَ من هَذَا الْقسم فَهُوَ مُؤثر كَمَا فِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ الْقسم الرَّابِع مِنْهَا مَا تفرد بِهِ بعض الروَاة مِمَّن
وَقَدِ اشْتَمَلَتَا عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ غَالِبَهَا وَابْتِدَاءُ كُلِّ نُسْخَةٍ مِنْهُمَا حَدِيثُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ فَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَلَكَ مُسْلِمٌ فِي نُسْخَةِ هَمَّامٍ طَرِيقًا أُخْرَى فَيَقُولُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مِنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي يُرِيدُهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَثْنَاءِ النُّسْخَةِ لَا أَوَّلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ الَّذِي لَا يَجْرِي قِيلَ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلدَّائِمِ وَإِيضَاحٌ لِمَعْنَاهُ وَقِيلَ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ رَاكِدٍ يَجْرِي بَعْضُهُ كَالْبِرَكِ وَقِيلَ احْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ لِأَنَّهُ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ سَاكِنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا حَيْثُ جَاءَ فِيهَا بِلَفْظِ الرَّاكِدِ بَدَلَ الدَّائِمِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ بن الْأَنْبَارِيِّ الدَّائِمُ مِنْ حُرُوفِ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِلسَّاكِنِ وَالدَّائِرِ وَمِنْهُ أَصَابَ الرَّأْسَ دُوَامٌ أَيْ دُوَارٌ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ الَّذِي لَا يَجْرِي صِفَةٌ مخصصة لأحد معني الْمُشْتَرَكِ وَقِيلَ الدَّائِمُ وَالرَّاكِدُ مُقَابِلَانِ لِلْجَارِي لَكِنِ الدَّائِم الَّذِي لَهُ نَبْعٌ وَالرَّاكِدُ الَّذِي لَا نَبْعَ لَهُ قَوْلُهُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْمَشْهُور وَقَالَ بن مَالِكٍ يَجُوزُ الْجَزْمُ عَطْفًا عَلَى يَبُولَنَّ لِأَنَّهُ مَجْزُومُ الْمَوْضِعِ بِلَا النَّاهِيَةِ وَلَكِنَّهُ بُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِتَوْكِيدِهِ بِالنُّونِ وَمَنَعَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ لَوْ أَرَادَ النَّهْيَ لَقَالَ ثُمَّ لَا يَغْتَسِلَنَّ فَحِينَئِذٍ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَوَارَدَا عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَاءُ قَالَ فَعُدُولُهُ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْعَطْفَ بَلْ نَبَّهَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بَالَ فِيهِ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِالْجَزْمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي مَآلِ حَالِهِ إِلَى مُضَاجَعَتِهَا فَتَمْتَنِعُ لِإِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ وَتَقْدِيرُ اللَّفْظِ ثُمَّ هُوَ يُضَاجِعُهَا وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْكِيدِ النَّهْيِ أَن لايعطف عَلَيْهِ نَهْيٌ آخَرُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ فِي أَحَدِهِمَا مَعْنًى لَيْسَ لِلْآخَرِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ إِذْ لَا تضمر أَن بعد ثمَّ وَأَجَازَهُ بن مَالِكٍ بِإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ الْوَاوِ وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا وَضَعَّفَهُ بن دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَفْظٌ وَاحِدٌ فَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ ثَبَتَتْ رِوَايَةُ النَّصْبِ وَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْرَادِ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ قُلْتُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد النَّهْيَ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُ الْمَاءَ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ وَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ فَيَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ فِيهِمَا وَرُدَّ بِأَنَّهَا دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهَا فَلَا يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُنَجِّسَهُ وَعَنِ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْلُبَهُ الطَّهُورِيَّةَ وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا فَيَمْتَنِعُ عَلَى الْغَيْرِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِمَوَارِدِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ طَهُورٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَدِلَّة

الصفحة 347