كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 1)

فَمَتَى رجح أحد الْأَقْوَال قدم وَلَا يعل الصَّحِيح بالمرجوح ثَانِيهمَا مَعَ الاسْتوَاء أَن يتَعَذَّر الْجمع على قَوَاعِد الْمُحدثين ويغلب على الظَّن أَن ذَلِك الْحَافِظ لم يضْبط ذَلِك الحَدِيث بِعَيْنِه فَحِينَئِذٍ يحكم على تِلْكَ الرِّوَايَة وَحدهَا بِالِاضْطِرَابِ ويتوقف عَن الحكم بِصِحَّة ذَلِك الحَدِيث لذَلِك وَهنا يظْهر عدم اسْتِوَاء وُجُوه الِاخْتِلَاف على أبي إِسْحَاق فِيهِ لِأَن الرِّوَايَات الْمُخْتَلفَة عَنهُ لَا يَخْلُو إِسْنَاد مِنْهَا من مقَال غير الطَّرِيقَيْنِ الْمُقدم ذكرهمَا عَن زُهَيْر وَعَن إِسْرَائِيل مَعَ أَنه يُمكن رد أَكثر الطّرق إِلَى رِوَايَة زُهَيْر وَالَّذِي يظْهر بعد ذَلِك تَقْدِيم رِوَايَة زُهَيْر لِأَن يُوسُف بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق قد تَابع زهيرا وَقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي المعجم الْكَبِير من رِوَايَة يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي إِسْحَاق كَرِوَايَة زُهَيْر وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَن بن مَسْعُود كَرِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق وَلَيْث وَإِن كَانَ ضَعِيف الْحِفْظ فَإِنَّهُ يعْتَبر بِهِ وَيسْتَشْهد فَيعرف أَن لَهُ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه أصلا ثمَّ إِن ظَاهر سِيَاق زُهَيْر يشْعر بِأَن أَبَا إِسْحَاق كَانَ يرويهِ أَولا عَن أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك وصيره عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ فَهَذَا صَرِيح فِي أَن أَبَا إِسْحَاق كَانَ مستحضرا للسندين جَمِيعًا عِنْد إِرَادَة التحديث ثمَّ إختار طَرِيق عبد الرَّحْمَن وأضرب عَن طَرِيق أبي عُبَيْدَة فإمَّا أَن يكون تذكر أَنه لم يسمعهُ من أبي عُبَيْدَة أَو كَانَ سَمعه مِنْهُ وَحدث بِهِ عَنهُ ثمَّ عرف أَن أَبَا عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه فَيكون الْإِسْنَاد مُنْقَطِعًا فأعلمهم أَن عِنْده فِيهِ إِسْنَادًا مُتَّصِلا أَو كَانَ حدث بِهِ عَن أبي عُبَيْدَة مدلسا لَهُ وَلم يكن سَمعه مِنْهُ فَإِن قيل إِذا كَانَ أَبُو إِسْحَاق مدلسا عنْدكُمْ فَلم تحكمون لطريق عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بالاتصال مَعَ إِمْكَان أَن يكون دلسه عَنهُ أَيْضا وَقد صرح بذلك أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن دَاوُد الشادكوني فِيمَا حَكَاهُ الْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث عَنهُ قَالَ فِي قَول أبي إِسْحَاق لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَن أَبِيه وَلم يقل حَدثنِي عبد الرَّحْمَن وأوهم أَنه سَمعه مِنْهُ تَدْلِيس وَمَا سَمِعت بتدليس أعجب من هَذَا انْتهى كَلَامه فَالْجَوَاب أَن هَذَا هُوَ السَّبَب الْحَامِل لسياق البُخَارِيّ للطريق الثَّانِيَة عَن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق الَّتِي قَالَ فِيهَا أَبُو إِسْحَاق حَدثنِي عبد الرَّحْمَن فانتفت رِيبَة التَّدْلِيس عَن أبي إِسْحَاق فِي هَذَا الحَدِيث وَبَين حفيده عَنهُ أَنه صرح عَن عبد الرَّحْمَن بِالتَّحْدِيثِ ويتأيد ذَلِك بِأَن الْإِسْمَاعِيلِيّ لما أخرج هَذَا الحَدِيث فِي مستخرجه على الصَّحِيح مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ زُهَيْر اسْتدلَّ بذلك على أَن هَذَا مِمَّا لم يُدَلس فِيهِ أَبُو إِسْحَاق قَالَ لِأَن يحيى بن سعيد لَا يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ عَنْ زُهَيْرٍ مَا لَيْسَ بِسَمَاع لشيخه وَكَأَنَّهُ عرف هَذَا بالاستقراء من حَال يحيى وَالله أعلم وَإِذا تقرر ذَلِك لم يبْق لدعوى التَّعْلِيل عَلَيْهِ مجَال لِأَن روايتي إِسْرَائِيل وَزُهَيْر لَا تعَارض بَينهمَا إِلَّا أَن رِوَايَة زُهَيْر أرجح لِأَنَّهَا اقْتَضَت الِاضْطِرَاب عَن رِوَايَة إِسْرَائِيل وَلم تقتض ذَلِك رِوَايَة إِسْرَائِيل فترجحت رِوَايَة زُهَيْر وَأما مُتَابعَة قيس بن الرّبيع لرِوَايَة إِسْرَائِيل فَإِن شَرِيكا القَاضِي تَابع زُهَيْر أَو شريك أوثق من قيس على أَن الَّذِي حررناه لَا يرد شَيْئا من الطَّرِيقَيْنِ إِلَّا أَنه يُوضح قُوَّة طَرِيق زُهَيْر واتصالها وتمكنها من الصِّحَّة وَبعد إعلالها وَبِه يظْهر نُفُوذ رَأْي البُخَارِيّ وثقوب ذهنه وَالله أعلم وَقد أخرج البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَا يشْهد لصِحَّة حَدِيث بن مَسْعُود فازداد قُوَّة بذلك فَأنْظر إِلَى هَذَا الحَدِيث كَيفَ حكم عَلَيْهِ بالمرجوحية مثل أبي حَاتِم وَأبي زرْعَة وهما إِمَامًا التَّعْلِيل وتبعهما التِّرْمِذِيّ وَتوقف الدَّارمِيّ وَحكم عَلَيْهِ بالتدليس الْمُوجب للانقطاع أَبُو أَيُّوب الشادكوني وَمَعَ ذَلِك فَتبين بالتنقيب والتتبع التَّام أَن الصَّوَاب فِي الحكم لَهُ بالراجحية فَمَا ظَنك بِمَا يَدعِيهِ من هُوَ دون هَؤُلَاءِ الْحفاظ النقاد من الْعِلَل هَل يسوغ أَن يقبل مِنْهُم
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا مَضَى فَتَأْتِي فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْله وَقَالَ بن الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَلِلْمُسْتَمْلِي وَالسَّرْخَسِيِّ وَكَانَ فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَإِفْرَادُ قَوْلِهِ إِذَا صَلَّى عَلَى إِرَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالْمُرَادُ بِمَسْأَلَةِ الدَّمِ مَا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُصَلِّي وَكَذَا الْجَنَابَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وَبِمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ مَا إِذَا كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ وَبِمَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ مَا إِذَا كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآثَارِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ التَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ وَقَدْ وَصَلَهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بن مَنْصُور وبن أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ مُفَرَّقَةٍ أَوْضَحْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَسْأَلَةِ الدَّمِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ فَعَدَمُ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرِ السَّلَفِ وَذَهَبَ جَمْعٌ من التَّابِعين مِنْهُم عَطاء وبن سِيرِينَ وَمَكْحُولٌ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا وَأَمَّا مَسْأَلَةُ بَيَانِ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَا يُعِيدُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ أَيْضًا وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ وَاسْتُدِلَّ لِلْأَوَّلِينَ بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ حَسَنٌ لَكِنْ ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ لَا يُرْوَى مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ وَقَالَ بن الْعَرَبِيِّ مُسْتَنَدُ الْجَدِيدِ أَنَّ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِ يَبْطُلُ إِذَا وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ قَالَ وَهَذَا لَا يَتِمُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا بِمَكَّةَ وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ يَقِينِ الْخَطَأِ إِلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ فَلَيْسَ فِيهِ نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

[240] قَوْلُهُ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَعَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ وَعَرَفْنَا مِنْ سِيَاقِهِ هُنَاكَ أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ وَإِنَّمَا قَرَنَهَا بِرِوَايَةِ عَبْدَانَ تَقْوِيَةً لَهَا لِأَنَّ فِي إِبْرَاهِيمَ

الصفحة 349