كتاب أعلام السيرة النبوية في القرن الثاني للهجرة

فمنهم من قواه، ومنهم من ضعفه حتى اتهمه غير واحد بالوضع في الحديث. ولكنه في المغازي والسير والأحداث غير مدفوع عن ذلك، بل له بها مزيد عناية واختصاص، وهو فيها رأس وله مكانة. قال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول: رأيت الواقدي يوماً جالساً إلى أسطوانة في مسجد المدينة، وهو يدرس، فقلنا: أي شيء تدرس؟ فقال: جزءاً من المغازي. وقلنا له يوما: هذا الذي تجمع الرجال تقول: حدثنا فلان وفلان، وجئت بمتن واحد، لو حدثتنا بحديث كل واحد على حدة، فقال: يطول، قلنا له: قد رضينا، فغاب عنا جمعة، ثم جاءنا بغزوة أحد في عشرين جلد، فقلنا: ردنا إلى الأمر الأول.
أقول: ولا غرابة في ذلك، فقد كان واسع الرواية بمنهج متميز، كشف عنه بقوله: ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة، وأبناء الشهداء، ولا مولى لهم إلا سألته هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإن أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما عملت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه (1) .ومن كان هذا همه ووكده فلا غرابة أن يكون عنده ما ليس عند غيره. قال ابن كثير، وهو الماهر العارف بهذا الشأن: والواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثر (2) .
وقال الذهبي: والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق اللسان كبير القدر (3) . وقال بعد أن استعرض ما قاله مادحوه وقادحوه (4) : "وقد
__________
(1) عيون الأثر 1/18.
(2) انظر: البداية 2/324.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء 7/142.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء 9/469.

الصفحة 58