كتاب التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة

واختيارها نفسها، فيلزم من هذا أن يكون عتقها تأخر عن شرائها، وهو بعيد جدا، إذ لا يظن بعائشة 1 - رضي الله عنها- أنها تشترى جارية بشرط العتق، ثم يتأخر عتقها عن الشراء مدة طويلة، بل ولا يقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد يقال: إن أصل المراوضة في بيعها كان بشرط العتق، ثم ابتاعتها بدون ذلك، وتأخر عتقها إلى أن قدم العباس- رضي الله عنه-، ولكنه بعيد أيضا، إذ لم يفهم العلماء في كل عصر من قصة بريرة إلا أنها بيعت بشرط العتق، وأقرب من هذين, أن يقال: إن محبة زوجها إياها امتدت زمنا طويلا إلى مجيء العباس، وبقي فسألها الرجعة، وفي صحيح البخاري كتاب العتق 2، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الورق"، فأعتقتها فدعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فخيّرها من زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما بقيت عنده، فاختارت نفسها". ففي هذا أن العتق كان عقيب الشراء، وكذلك التخيير، فلم يبق إلا أن حب زوجها استمر زمنا طويلا، وبه يزول الإشكال 3. والله أعلم.
6- ومنها: ما قال البخاري في كتاب الجهاد، من صحيحه 4، باب من غزا بصبيّ للخدمة: "حدثنا قتيبة 5، حدثنا يعقوب 6، عن عمرو 7، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طلحة: "التمس (لي) 8 غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر"، فخرج بي أبو طلحة (مردفي) 9 وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم
__________
1 6/ب.
2 خ 3/121، ولفظه (ما بقيت) عند البخاري (ما ثبت) .
3 هذا هو الراجح، ولذلك تعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدم انقطاع الأمل عند الزوج، رغم طول المدة. وقد أفاد الحافظ أن قصة بريرة كانت متأخرة في السنة التاسعة، أو العاشرة، وأيد ذلك بقصة العباس هذه، ومشاهدة ابنه عبد الله، وهو إنما قدم المدينة مع أبويه، واستبعد أن تكون قصة العتق قبل الإفك، لأن عائشة صغيرة ولا تحسن التصرف في مثل هذه الأمور. إلى غير ذلك من الاحتمالات (الفتح 9/409) . وهو مردود بأنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة عن حال عائشة - رضي الله عنها - ولا يمنع أن يتقدم العتق وتبقى بريرة - رضي الله عنها - في خدمة أم المؤمنين وفاء لها، ولتحظى بشرف القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، ولا يمنع أن تكون عائشة صغيرة لكنها راجحة في عقلها وليست سفيهة، ومع ذلك تتصرف في ظل التوجيهات النبوية، أما وفرة المال من عدمها فمعلوم أن أبا بكر كان يملك مالا وأسهم في جيش العسرة، وليس بلازم ألا يكون عند عائشة شيء. وقد صح أنها قالت: "إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة) . (م 2/1142) .
4 خ 3/224.
5 ابن سعيد.
6 ابن عبد الرحمن، الاسكندراني.
7 ابن أبي عمرو، مولى المطلب.
8 سقطت من الأصل، ولكنها في رواية إسماعيل بن جعفر، عن عمرو (خ 6/206, 207) .
9 في الأصل "فردني" وهو خطأ.

الصفحة 64