كتاب جولة في كتابي (الأغاني) و (السيف اليماني)

حوائجه.. وذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري بها لنا ما نحب فاعرضْ عليه جاريتك هذه ولانتقصها عن ثلاثين ألف دينار.. وعلى غرار الصفقة الآنفة جرى أمر الصفقة الثانية على الجارية نفسها، وانتهى الأمر بعشرين ألف دينار فسلمها وأخذ المال، فلما رآه ضحك وضرب الأرض برجله وهو يقول: ويحك حرمت نفسك عشرة آلاف دينار.. ودعا بالغلام فأخرج له الجارية فقال خذها ما أردنا سوى منفعتك 195-196.
ولقد آثرنا نقل هذين الخبرين بحوارهما دون تعديل إلا ما اقتضاه الإيجاز، لنتيح للقارئ أن يضع يده على بعض أهم المفاسد التي رشحت الدولة العباسية للانهيار.. فليس بالأمر الهين أن تشيع فاحشة الرشوة حتى تكون أساس التعامل بين الولاة وكبار رؤسائهم، أضف إلى ذلك تلك الحيل الخسيسة التي تمكن النصابين من الحصول على أموال الدولة بأحقر الوسائل، حتى ترى عامل الدولة يشري رضا رئيسه وسكوته عن جرائره بعشرات الآلاف من الدنانير، وترى في الوقت نفسه رئيسه الأعلى يشتري متعته مع المغني بتحويل الرشوة كلها إليه عن طريق المؤامرة، وبينهما ذلك الوسيط- الرسول- الذي يداور المغني حتى ينال نصيبه من المال الحرام ثلاثين ألف دينار.
ولا مندوحة هنا عن التساؤل: إذا كان هذا شأن الوالي في رشوة رئيسه، فما حصيلة ذلك على العلاقة بين الوالي الراشي والشعب الذي يتولى أمره؟!.
ولعل أقرب جواب على هذا التساؤل هو ما يشاهده القارئ المعاصر من أمانة كبار المسئولين في أيامه على الأموال العامة، وأكداس الديون التي تتحملها الشعوب لتأمين رغبات هؤلاء السادة الأعلَين!.
أما كبرى المؤشرات التي ينطوي عليها عمل الفضل البرمكي بل البرامكة كلهم في نسيج هذه الأحداث وأمثالها فلا مفهوم لها سوى أنها صورة من التآمر الشعوبي على الإِسلام وعلى كيان دولته بإشاعة التهتك وتدمير الاقتصاد، وإخماد روح الجهاد في سبيل الدعوة إلى الله، حتى ينتهي المطاف بالأمة الإسلامية إلى فقدانها قدرةَ الدفاع عن نفسها بمقوماتها الذاتية لتُنقل أزمتها إلى أيدي الآخرين ممن لا يهمهم سوى شهوة الحكم.. وهو ما صارت إليه الدولة العباسية أخيرا على أيدي عملاء المجوسية، الذين عجزوا عن

الصفحة 445