كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

وَمَا مَلَكَ، وَيَقُولُونَ: غُفْرَانَكَ غُفْرَانَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} الآية. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِغْفَارُ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار (أخرجه ابن أبي حاتم). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} يَقُولُ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا وَأَنْبِيَاؤُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يَقُولُ: مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ، يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي يُصَلُّونَ، يعني بهذا أهل مكة، وقال الضحاك: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يَعْنِي المؤمنين الذين كانوا بمكة. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الاستغفار إلى يوم القيامة" (رواه الترمذي في سننه). ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعَزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا استغفروني" (أخرجه أحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
- 34 - وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
- 35 - وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُعَذِّبَهُمْ، ولكنْ لَمْ يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهُمْ أَوْقَعَ اللَّهُ بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم، وأسر سَرَاتُهُمْ، وَأَرْشَدَهُمْ تَعَالَى إِلَى الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ، قال قتادة والسدي: لَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَسْتَغْفِرُونَ وَلَوْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ ما عذبوا. قال ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا، قَالَ فِي الْأَنْفَالِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ - إِلَى قَوْلِهِ - فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فقاتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر، وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، ثُمَّ اسْتَثْنَى أَهْلَ الشِّرْكِ فَقَالَ: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ وَكَيْفَ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أي الذي بمكة، يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فيه وَالطَّوَافِ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} أَيْ هُمْ لَيْسُوا أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا أَهْلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، وقال تعالى:
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ، قَدْ أَخَذَتْ صَبِيًّا لَهَا، فَأَلْصَقَتْهُ إِلَى صَدْرِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟» قالوا: لا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فواللَّهِ، للهُ
أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} أي تحيتهم مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ، أَيْ يوم يسلم عليهم، كما قال عزَّ وجلَّ: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رحيم} وقال قتادة: الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ يَوْمَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (قُلْتُ): وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} يَعْنِي الْجَنَّةَ وَمَا فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
- 45 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
- 46 - وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا
- 47 - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا
- 48 - وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً

عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ولا سخَّاب (سخّاب: أي كثير الصخب وهو الذي يرفع صوته في الأسواق) فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يعفو ويصفح وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً (أخرجه البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار). وقال وهب بن منبه: إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ (شِعِيَاءُ) أَنْ قُمْ فِي قَوْمِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي مَنْطِقٌ لِسَانَكَ بِوَحْيٍ، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، لَوْ يَمُرُّ إِلَى جَنْبِ سِرَاجٍ لَمْ يُطْفِئْهُ مِنْ سَكِينَتِهِ، وَلَوْ يَمْشِي عَلَى الْقَصَبِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، أَبْعَثُهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لَا يَقُولُ الْخَنَا، أَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا كُمْهًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، والبِّر شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَنْطِقَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضلال، وأعلِّم بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُعْرَفُ بِهِ بَعْدَ النُّكْرَةِ، وَأُكْثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ أُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتَّتَةٍ، وَأَسْتَنْقِذُ بِهِ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ عَظِيمَةً مِنَ الْهَلَكَةِ، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلِي، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، وَالثَّنَاءَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ، فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَضَاجِعِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ

الصفحة 102