كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} الآية، وقال الحافط ابن مردويه في تفسير هذه الآية عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوليائك؟ قَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ»، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ}. وقال الحاكم في مستدركه: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً فقال: «هل فيكم من غيركم؟» فقالوا: فِينَا ابْنُ أُخْتِنَا وَفِينَا حَلِيفُنَا وَفِينَا مَوْلَانَا، فَقَالَ: «حَلِيفُنَا مِنَّا وَابْنُ أُخْتِنَا مِنَّا وَمَوْلَانَا منا إن أوليائي منكم المتقون».
وقال عروة والسدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} قَالَ: هُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ المجاهدون من كانوا حيث كَانُوا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُ بِهِ، فَقَالَ: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} المكاء هو الصفير (وهو قول ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة)، وزاد مجاهد: وكانوا يدخلون أصابعم في أَفْوَاهِهِمْ. وقال السدي: المكاء هو الصَّفِيرُ عَلَى نَحْوِ طَيْرٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ المكاء ويكون بأرض الحجاز. عن ابن عباس قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق. وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} قَالَ: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وعن ابن عمر أيضاً أنه قال: إنهم كَانُوا يَضَعُونَ خُدُودَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَيُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ، ويصنعون ذَلِكَ لِيَخْلِطُوا بِذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِلَاتَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَسْتَهْزِئُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وعن سعيد بن جبير {وَتَصْدِيَةً} قَالَ: صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قَوْلُهُ: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ القتل والسبي، واختاره ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَذَابُ أَهْلِ الْإِقْرَارِ بِالسَّيْفِ، وعذاب أهل التكذيب بالصحية والزلزلة.
- 36 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
- 37 - لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق: لما أصيب قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِهِ، مَشَى (عَبْدُ اللَّهِ بن أبي ربيعة) و (عكرمة بن أبي جهل) و (صفوان بْنُ أُمية) فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا، فَفَعَلُوا، قال: ففيهم أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ - إلى قوله - هُمُ الخاسرون} (في اللباب: أخرج ابن جرير أنها نزلت في أبي سفيان استأجر يوم أُحُد ألفين من الأحابيش ليقاتل بِهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهِيَ عَامَّةٌ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا خَاصًّا، فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى
لِي قِيَامًا وَقُعُودًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صُفُوفًا وَزُحُوفًا، وَيُخْرِجُونَ مِنْ دِيَارِهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي أُلُوفًا، يُطَهِّرُونَ الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَشُدُّونَ الثِّيَابَ فِي الْأَنْصَافِ، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، وَأَجْعَلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وذريته السابقين والصديقين، والشهداء الصالحين، أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وأعز مَنْ نَصَرَهُمْ وَأُؤَيِّدُ مَنْ دَعَا لَهُمْ، وَأَجْعَلُ دائرة السوء على ما خَالَفَهُمْ، أَوْ بَغَى عَلَيْهِمْ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، أَجْعَلُهُمْ وَرَثَةً لِنَبِيِّهِمْ، وَالدَّاعِيَةَ إِلَى رَبِّهِمْ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُوفُونَ بعهدهمن أَخْتِمُ بِهِمُ الْخَيْرَ الَّذِي بَدَأْتُهُ بِأَوَّلِهِمْ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ العظيم (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رحمة الله).
وقال ابن عباس: لَمَّا نَزَلَتْ: {يِا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وَقَدْ كَانَ أَمَرَ عَلِيًّا ومعاذاً رضي الله عنهما أَنْ يَسِيرَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، إِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عليَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (رواه ابن أبي حاتم والطبراني) ". فقوله تعالى {شَاهِداً} أَيْ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَعَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، كَقَوْلِهِ: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، وقوله عزَّ وجلَّ {وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب، وقوله جلت عظمته {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أَيْ دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إلى عبادة ربهم، {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أَيْ وَأَمْرُكَ ظَاهِرٌ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ كَالشَّمْسِ فِي إِشْرَاقِهَا وَإِضَاءَتِهَا لا يجحدها إلا معاند. وقوله جلَّ وعلا: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيْ لا تطعهم وتسمع مِنْهُمْ فِي الَّذِي يَقُولُونَهُ، {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيِ اصْفَحْ وَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ وَكِلْ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعالى، ولهذا قال جلَّ جلاله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}.
- 49 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ منها، لقوله تبارك وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وَفِيهَا دَلَالَةٌ لِإِبَاحَةِ طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذْ لَا فَرْقَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وقد استبدل ابن عباس وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَهُ نِكَاحٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب النكاح بالطلاق، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وذهب مالك وأبو حنيفة إِلَى صِحَّةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَعِنْدَهُمَا متى تزوجها طلقت مِنْهُ، فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: إِذَا قَالَ (كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طالق) لَيْسَ بِشَيْءٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

الصفحة 103