كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم» (رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: حديث حسن الإسناد)، وقوله: {واليتامى} أي أيتام الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَخْتَصُّ بِالْأَيْتَامِ الْفُقَرَاءِ أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين، والمساكين هُمُ الْمَحَاوِيجُ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُمْ وَمَسْكَنَتَهُمْ {وَابْنِ السَّبِيلِ} هُوَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُرِيدُ لِلسَّفَرِ إِلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُهُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سورة براءة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أَي امْتَثِلُوا مَا شَرَعْنَا لَكُمْ مِنَ الْخُمُسِ فِي الْغَنَائِمِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس في وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: "وَآمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تؤدوا الخمس من المغنم" الحديث، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقوله: {يَوْمَ الفرقان يوم التقى الجمعان} يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِبَدْرٍ، ويسمى الفرقان، لأن الله أَعْلَى فِيهِ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ عَلَى كَلِمَةِ الْبَاطِلِ، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمُ بَدْرٍ، فَرَقَ الله فيه بين الحق والباطل (أخرجه الحاكم). وقال عروة بن الزبير: {يَوْمَ الفرقان} يوم فرق الله بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ (عُتْبَةُ بْنُ ربيعة) فالتقوا يوم الجمعان لِتِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالْمُشْرِكُونَ مَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالتِّسْعِمِائَةِ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ،
وَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى السَّبْعِينَ وَأُسِرَ مِنْهُمْ مثل ذلك. وكانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبحيتها لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسَّيْرِ.
- 42 - إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفُرْقَانِ: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} أي أَنْتُمْ نُزُولٌ بِعُدْوَةِ الْوَادِي الدُّنْيَا الْقَرِيبَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ {وَهُم} أَي الْمُشْرِكُونَ نُزُولٌ {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي البعيدة من المدينة إلى نَاحِيَةِ مَكَّةَ {وَالرَّكْبُ} أَي الْعِيرُ الَّذِي فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ بِمَا مَعَهُ مِنَ التِّجَارَةِ، {أَسْفَلَ مِنكُمْ} أَيْ مِمَّا يَلِي سَيْفَ الْبَحْرِ {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أَيْ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَانٍ {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد}، قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، ثُمَّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةُ عَدَدِكُمْ مَا لَقِيتُمُوهُمْ {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} أي ليقضي
وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا
- 54 - إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
هَذِهِ آيَةُ الْحِجَابِ، وَفِيهَا أَحْكَامٌ وَآدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ مِمَّا وَافَقَ تَنْزِيلُهَا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عنه أنه قال: وَافَقْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ حَجَبْتَهُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمَّا تَمَالَأْنَ عَلَيْهِ فِي الْغَيْرَةِ {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ذِكْرُ أُسَارَى بدر وهي قضية رابعة. وفي البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمهات الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وَكَانَ وَقْتُ نُزُولِهَا فِي صَبِيحَةِ عُرْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بزينب بنت جحش، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، قال البخاري عن أنس بن مالك: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قاموا فانطلقوا، فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخَلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} الآية (رواه البخاري عن أنس بن مالك وأخرجه مسلم والنسائي بنحوه).
وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَعْرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ نِسَائِهِ، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر (الحيس: طعام خليط من تمر وسمن وأَقِط. التور: وعاء صغير للشرب)، فَقَالَتْ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، - قَالَ أَنَسٌ: وَالنَّاسُ يومئذٍ فِي جَهْد - فَجِئْتُ بِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعثتْ بِهَذَا أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَيْكَ، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَتَقُولُ أَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قال: «ضعه» فوضعه فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لي فلاناً وفلاناً» فسمى رِجَالًا كَثِيرًا، وَقَالَ: «وَمَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»، فَدَعَوْتُ مَنْ قَالَ لِي وَمَنْ لَقِيتُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَجِئْتُ وَالْبَيْتُ وَالصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ مَلْأَى مِنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ كَمْ كَانُوا؟ فَقَالَ: كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جئْ بِهِ» فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَدَعَا، وَقَالَ: «مَا شَاءَ اللَّهُ» ثُمَّ قَالَ: «لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ وَلْيُسَمُّوا، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ» فَجَعَلُوا يُسَمُّونَ وَيَأْكُلُونَ حَتَّى أكلوا كلهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فَمَا أَدْرِي أَهْوَ حِينَ وَضَعْتُ أَكْثَرُ أَمْ حِينَ أَخَذْتُ، قَالَ: وَتَخَلَّفَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج رسول الله التي دخل
الصفحة 108