كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
- 63 - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا خِفْتَ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى حَرْبِكَ وَمُنَابِذَتِكَ فَقَاتِلْهُمْ {وَإِن جَنَحُواْ} أَيْ مَالُوا {لِلسَّلْمِ} أَيْ الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ {فَاجْنَحْ لَهَا} أَيْ فَمِلْ إِلَيْهَا، وَاقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ، أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. قال ابن عباس ومجاهد: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي بَرَاءَةَ {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} الآية (وهو قول عطاء وعكرمة والحسن وقتادة وزيد بن أسلم)، وفيه نظر، لِأَنَّ آيَةَ بَرَاءَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أمكن ذلك، فَأَمَّآ إِن كَانَ العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ صَالِحْهُمْ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَلَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالصُّلْحِ خَدِيعَةً لِيَتَقَوَّوْا وَيَسْتَعِدُّوا {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أَيْ كَافِيكَ وَحْدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عليه بما أيده مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ جَمَعَهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ وَعَلَى طَاعَتِكَ وَمُنَاصَرَتِكَ وَمُوَازَرَتِكَ، {لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْأَوْسِ والخزرج، حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِنُورِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ الْأَنْصَارَ فِي شَأْنِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ قَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي» كلما قالوا شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَزِيزُ الْجَنَابِ فَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ {حَكِيمٌ} فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ، وَإِنَّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ الْقُلُوبِ لَمْ يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، وعن مجاهد قال: إذا التقى الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات وَرَقُ الشَّجَرِ، قَالَ عَبْدَةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الله يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} قَالَ عَبْدَةُ: فَعَرَفْتُ أنه أفقه مني. عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذنوبهما كما تحات الْوَرَقُ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مِثْلَ زَبَدِ الْبِحَارِ».
- 64 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- 65 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى القتال
تَسْتَعْجِلُوهُ}، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أَيْ ابعدهم من رَحْمَتِهِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ مَاكِثِينَ مُسْتَمِرِّينَ فَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا زَوَالَ لَهُمْ عنها، {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي ليس لَهُمْ مُغِيثٌ وَلَا مُعِينٌ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} أَيْ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وتلوى وجوههم على جهنم، يتمنون أن لو كانوا في الدُّنْيَا مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ الرَّسُولَ، كَمَا أخبر الله عنهم بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا ليتني اتخذت مَعَ الرسول سبيلاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}، وَهَكَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي حَالَتِهِمْ هَذِهِ أَنَّهُمْ يودون أن لو أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ فِي الدُّنْيَا، {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} قال طاووس: {سَادَتَنَا} يعني الأشراف و {كُبَرَآءَنَا} يعني العلماء، أَيِ اتَّبَعْنَا السَّادَةَ وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنَ المشيخة، وخالفنا الرسل {رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِّنَ الْعَذَابِ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ وإغوائهم إيانا {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} قرئ (كبيراً) وقرئ (كيثراً) وهما متقاربان في المعنى.
- 69 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً
أخرج الإمام البخاري عند تفسير هذه الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عيب في جلده إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَخَلَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فرغ أقبل على ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوبِي حَجَرٌ، ثُوبِي حَجَرٌ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا - قَالَ - فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (أخرجه البخاري مطولاً في أحاديث الأنبياء ورواه في باب التفسير مختصراً). وعن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى} قَالَ، قَالَ قَوْمُهُ لَهُ: إِنَّكَ آدَرُ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَخَرَجَتِ الصَّخْرَةُ تَشْتَدُّ بِثِيَابِهِ، وَخَرَجَ يَتْبَعُهَا عُرْيَانَا، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إلى مَجَالِسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَرَأَوْهُ لَيْسَ بِآدَرَ فذلك قوله: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ}، وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ مَنَّ الْأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، قَالَ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَمَا لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قلت، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين وللفظ لأحمد). وقوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَاهٌ عِنْدَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَلَكِنْ مُنِعَ الرُّؤْيَةَ لِمَا يَشَاءُ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ وَجَاهَتِهِ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي
الصفحة 116