كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
- 74 - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
- 75 - وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وَأْوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، عَطَفَ بِذِكْرِ مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بحقية الإيمان، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إِنْ كَانَتْ، وَبِالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَهُوَ الْحَسَنُ الْكَثِيرُ الطيب الشريف الذي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَنْقَضِي، وَلَا يُسْأَمُ وَلَا يُمَلُّ لِحُسْنِهِ وَتَنَوُّعِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْأَتْبَاعَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الإيمانُ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُمْ مَعَهُمْ فِي الآخرة كما قال: {والسابقون الأولون} الآية، وقال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية، وفي الحديث المتفق عليه: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «ومن أحب قوماً فهو منهم» وفي رواية: «حشر معهم»، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأْوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي حُكْمِ الله، وليس المراد بقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام} (أخرج ابن جرير: كان الرجل يعاقد الرجل فيقول ترثني وأرثك، فنزلت: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ ... } الآية، وأخرج ابن سعد: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزبير بن العوام وكعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعباً أصابته الجراحة بأحد، فقلت: لو مات لورثته، فنزلت هذه الآية) خُصُوصِيَّةَ مَا يُطْلِقُهُ عُلَمَاءُ الْفَرَائِضِ، عَلَى الْقَرَابَةِ الَّذِينَ لَا فَرْضَ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ عَصَبَةٌ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ القرابات، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْإِرْثِ بِالْحِلْفِ والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً، وَعَلَى هَذَا فَتَشْمَلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ والله أعلم.
الْبَعِيدِ} مِنَ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ تعالى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض، {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، أَيْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا وذهبوا، فالسماء مطلة عليهم والأرض تحتهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} قال قتادة: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ أَوْ عَنْ شِمَالِكَ أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَوْ مَنْ خلفك رأيت السماء والأرض، وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} أَيْ لَوْ شِئْنَا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وَقُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِحِلْمِنَا وَعَفْوِنَا، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}، قال قتادة: {مُّنِيبٍ} تائب، وعنه: المنيب المقبل إلى الله تعالى، أي إن في النظر إلى خلق السماوات وَالْأَرْضِ، لَدَلَالَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ فَطِنٍ لَبِيبٍ رجَّاع إلى الله، على قدرة الله تعالى عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ وَوُقُوعِ الْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْضِينَ فِي انْخِفَاضِهَا، وَأَطْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَنَشْرِ الرَّمِيمِ مِنَ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى}، وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يعلمون}.
- 10 - ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
- 11 - أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ الْمُبِينِ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ الْمُتَمَكِّنِ، وَالْجُنُودِ ذَوِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَمَا أَعْطَاهُ وَمَنَحَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ إِذَا سَبَحَ بِهِ تَسْبَحُ مَعَهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، الصُّمُّ الشَّامِخَاتُ، وَتَقِفُ لَهُ الطُّيُورُ السَّارِحَاتُ، وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ، وَتُجَاوِبُهُ بِأَنْوَاعِ اللُّغَاتِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سمع صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَقَفَ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود». ومعنى قوله تعالى: {أَوِّبِي} أَيْ سَبِّحِي (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وغير واحد)، والتأويب في اللغة التَّرْجِيعُ، فَأُمِرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ أَنْ تُرَجِّعَ مَعَهُ بأصواتها، وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: كَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدْخِلَهُ نَارًا وَلَا يَضْرِبَهُ بِمِطْرَقَةٍ، بَلْ كَانَ يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ مِثْلَ الخيوط، ولهذا قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} وَهِيَ الدُّرُوعُ، قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا كانت قبل ذلك صفائح، وقال ابن شوذب: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْعًا فَيَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَلْفَيْنِ لَهُ وَلِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يُطْعِمُ بِهَا بني إسرائيل خبز الحواري (أخرجه ابن أبي حاتم)، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدروع، قال مجاهد {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} لَا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم ولا تدقه فيقلق، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرْدُ حَلَقُ الْحَدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ إِذَا كَانَتْ مَسْمُورَةُ الْحَلَقِ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
الصفحة 122