كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

- 13 - أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرسول وهم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- 14 - قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
- 15 - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

وَهَذَا أَيْضًا تَهْيِيجٌ وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجوك}، وَقَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ منها} الآية، وقوله: {وَهُم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ حين خرجوا لنصر غيرهم، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ وَقِتَالُهُمْ مَعَ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ لِخُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وكان ما كان، وَقَوْلُهُ: {أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ}، يَقُولُ تَعَالَى: لَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ يَخْشَى الْعِبَادُ مِنْ سَطْوَتِي وعقوبتي، ثم قال تعالى بياناً لِحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، مَعَ قدرته على إهلاك العدو {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وَهَذَا عَامٌّ فِي المؤمنين كلهم، وقال مجاهد وعكرمة: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} يعني خزاعة، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ} أَيْ مِنْ عِبَادِهِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، {حَكِيمٌ} فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الحاكم الذي لا يجور أبداً.
- 16 - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أي ظننتم أَنْ نَتْرُكَكُمْ مُهْمَلِينَ، لَا نَخْتَبِرُكُمْ بِأُمُورٍ يَظْهَرُ فيها الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أَيْ بِطَانَةً وَدَخِيلَةً، بَلْ هُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا * أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يليني
وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}؟ وقال تعالى: {ما اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الآية، والحاصل: أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بيَّن أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً وَهُوَ اخْتِبَارُ عَبِيدِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَهُوَ تَعَالَى العالم بما كان وما يَكُونُ، فَيَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- 17 - مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار
الشَّرِكَةِ {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} أَيْ وليس لله من هذه الأنداد من معين يُسْتَظْهَرُ بِهِ فِي الْأُمُورِ، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ عُبَيْدٌ لَدَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قوله عزَّ وجلَّ {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} مِنْ عَوْنٍ يعينه بشيء، ثم قال تعالى {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَيْ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}؟ وقال جلَّ وعلا: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى}، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خشيته مشفقون} وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْبَرُ شَفِيعٍ عِنْدَ الله تعالى، أَنَّهُ حِينَ يَقُومُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لِيَشْفَعَ فِي الخلق كلهم، قال: «فأسجد لله تعالى فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، وَيَفْتَحَ عليَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن
قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ}، وَهَذَا أَيْضًا مَقَامٌ رَفِيعٌ فِي الْعَظَمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إذا تكلم بالوحي فسمع أَهْلُ السَّمَاوَاتِ كَلَامَهُ أُرْعِدُوا مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى يلحقهم مثل الغشي، قال ابن مسعود {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أَيْ زَالَ الْفَزَعُ عَنْهَا، وقال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ الحق} يقول: خلي عن قلوبهم، فإذا كان كذلك سأل بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لِلَّذِينِ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِمَنْ تَحْتَهُمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: {قَالُواْ الْحَقَّ} أَيْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
وقال آخرون: بل معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الدنيا، قَالُواْ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ: الْحَقُّ، وَأُخْبِرُوا بِهِ مِمَّا كَانُوا عَنْهُ لَاهِينَ فِي الدنيا، قال مُجَاهِدٍ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} كَشَفَ عَنْهَا الْغِطَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ {حَتَّى إِذَا فزع عن قلوبهم} يعني من فيها من الشك والتكذيب، وقال ابن أَسْلَمَ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ قَالَ فُزِّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ وَأَمَانِيهِمْ وَمَا كَانَ يُضِلُّهُمْ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قَالَ: وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ - هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ - أَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أن الضمير عائد على (الملائكة) وهذا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِصِحَّةِ الأحاديث فيه والآثار، قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ في صحيحه عن سفيان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا قضى الله تعالى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بعض - ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا
أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" (أخرجه البخاري ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه). وعن النواس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ

الصفحة 129