كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

اللَّهِ عُذّب بِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ جَمْعُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ آثَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ رِضَا اللَّهِ عنهم عذبوا بها، وكانت أَضَرَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَنَاهِيكَ بِحَرِّهَا، فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وجنوبهم وظهورهم، قال عبد الله بن مسعود: والذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُكْوَى عَبْدٌ بِكَنْزٍ فيمس ديناراً دِينَارًا وَلَا دِرْهَمٌ دِرْهَمًا، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فيوضع كل دينار ودرهم على حدته؛ وقال طاووس: بَلَغَنِي أَنَّ الْكَنْزَ يَتَحَوَّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ لَا يُدْرِكُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى
يُقْضَى بَيْنَ العباد ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلى النار».
- 36 - إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المتقين

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ
اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جمادى وشعبان» (رواه الإمام أحمد وأخرجه البخاري في التفسير بتمامه) الحديث. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أَوَّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الحجة والمحرم» (أخرجه ابن جرير وابن مردويه). وقال سعيد بن منصور عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قَالَ: مُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» تَقْرِيرٌ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَلَا نَسِيءٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، كَمَا قَالَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السموات الأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة»، وهكذا قال ههنا: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات والأرض» أي الأمر اليوم شرعاً كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «قَدِ اسْتَدَارَ كهيئته يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ نَسَأَتِ النَّسِيءَ يَحُجُّونَ فِي كَثِيرٍ مِّن السِّنِينَ بَلْ أَكْثَرِهَا فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، كَمَا سنبينه إذا تكلمنا على النسيء.
سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يصنعون

لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السَّعِيرِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ لِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ذَنْبٍ {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} عَلَى مَا عَمِلُوهُ من خير، ثم قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} يَعْنِي كَالْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا سَيِّئَةً وَهُمْ في ذلك يعتقدون ويحسبون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أي فمن كَانَ هَكَذَا قَدْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، أَلَكَ فِيهِ حيلة؟ {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أَيْ بِقَدَرِهِ كَانَ ذَلِكَ، {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى ذلك، فإن الله حكيم في قدره، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بما يصنعون} (في اللباب: أخرج جوبير: نزلت {أفمن زين} حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ أعز دينك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل فهدى الله عمر وأضل أبا جهل)، روى ابن أبي حاتم عند هذه الآية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ فِي حَائِطٍ بِالطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ الْوَهْطُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن الله تعالى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ مِنْهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جفَّ الْقَلَمُ عَلَى مَا عَلِمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ".
- 9 - وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ
- 10 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
- 11 - وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

كَثِيرًا مَا يَسْتَدِلُّ تَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ بِإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ موتها، يُنَبِّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِهَذَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تَكُونُ مَيِّتَةً هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّحَابَ تَحْمِلُ الْمَاءَ وَأَنْزَلَهُ عَلَيْهَا، {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زوج بهيج}، كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بَعْثَهَا وَنَشُورَهَا أَنْزَلَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَطَرًا يعم الأرض جميعاً، ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبَ الذَّنَب، مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ النُّشُورُ}. وَتَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا رَزِينٍ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادِي

الصفحة 140