كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشتد على الناس، فَنَسَخَهَا اللَّهُ فَقَالَ: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ}.
وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قَالَ: وَافَيْتُ (الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ) فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَقُلْتُ لَهُ: قد أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ البعوث: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً}، وقال ابن جرير عن حبان بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ (صَفْوَانَ بن عمرو) وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً قد سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ على راحلته فيمن أغار فأقلبت إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا إِنَّهُ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ فَيُبْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ وَذَكَرَ، وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ عزَّ وجلَّ. ثُمَّ رَغَّبَ تَعَالَى فِي النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ وَبَذْلِ الْمُهَجِ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ، فَقَالَ: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، لأنكم تَغْرَمُونَ فِي النَّفَقَةِ قَلِيلًا، فَيُغْنِمُكُمُ اللَّهُ أَمْوَالَ عَدُوِّكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تكفل اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يدخله الجنة، أو يرده إلى منزلة بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} الآية، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ» قَالَ أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا".
- 42 - لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُوَبِّخًا لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوة تبوك وقعدوا بعدما اسْتَأْذَنُوهُ فِي ذَلِكَ، مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ ذَوُو أَعْذَارٍ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَقَالَ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أَيْ قَرِيبًا أَيْضًا {لَاتَّبَعُوكَ}: أَيْ لَكَانُوا جَاءُوا مَعَكَ لِذَلِكَ {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}: أَي الْمَسَافَةُ إِلَى الشَّامِ {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}: أَيْ لَكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا معكم}: أي لو لم يكن لَنَا أَعْذَارٌ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
- 43 - عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
- 44 - لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
- 45 - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ

قَالَ عون: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ ناداه بِالْعَفْوِ قَبْلَ الْمُعَاتَبَةِ، فَقَالَ: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لم أذنت
مثل ضربه الله تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الْأَحْيَاءُ، وَلِلْكَافِرِينَ وَهُمُ الْأَمْوَاتُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَوْ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ منها}. وقال عزَّ وجلَّ: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}؟ فالمؤمن بصير سميع فِي نُورٍ يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ بِهِ الْحَالُ فِي الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم فِي ظُلُمَاتٍ يَمْشِي لَا خُرُوجَ لَهُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ يَتِيهُ فِي غَيِّهِ وَضَلَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، حَتَّى يُفْضِيَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْحَرُورِ وَالسَّمُومِ وَالْحَمِيمِ {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ}، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} أَيْ يَهْدِيهِمْ إِلَى سَمَاعِ الْحُجَّةِ وَقَبُولِهَا وَالِانْقِيَادِ لَهَا {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} أَيْ كَمَا لا يَنْتَفِعُ الْأَمْوَاتُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَصَيْرُورَتِهِمْ إِلَى قُبُورِهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ بِالْهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حلية لَكَ فِيهِمْ، وَلَا تَسْتَطِيعُ هِدَايَتَهُمْ {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}، أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَالْإِنْذَارُ وَاللَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أَيْ وَمَا مِنْ أُمَّةٍ خَلَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَقَدْ بَعَثَ الله تعالى إِلَيْهِمُ النُّذُرَ وَأَزَاحَ عَنْهُمُ الْعِلَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الْآيَةَ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الْبَاهِرَاتُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَاتُ، {وَبِالزُّبُرِ} وَهِيَ الْكُتُبُ، {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أَيِ الْوَاضِحُ الْبَيِّنُ، {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، أَيْ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَذَّبَ أُولَئِكَ رُسُلَهُمْ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ فَأَخَذْتُهُمْ أَيْ بِالْعِقَابِ وَالنَّكَالِ، {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أَيْ فَكَيْفَ رَأَيْتَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ عظيماً شديداً بليغاً؟ والله أعلم.
- 27 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
- 28 - وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غفور

قول تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ الْمُتَنَوِّعَةَ الْمُخْتَلِفَةَ مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ، يُخْرِجُ بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا مِنْ أَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ وَأَبْيَضَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ الثِّمَارِ، كما هو الشاهد مِنْ تَنَوُّعِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، كَمَا قَالَ تعالى في الآية الأخرى: {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أَيْ وَخَلَقَ الْجِبَالَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ أَيْضًا مِنْ بِيضٍ وَحُمْرٍ، وَفِي بَعْضِهَا طَرَائِقُ وَهِيَ الْجُدَدُ جَمْعُ جُدَّةٍ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ أَيْضًا، قَالَ ابْنُ عباس: الجدد الطرائق، ومنها غرابيب سُودٌ، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْغَرَابِيبُ الْجِبَالُ الطِّوَالُ السُّودُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْعَرَبُ إِذَا وَصَفُوا الْأَسْوَدَ بِكَثْرَةِ السَّوَادِ، قَالُوا: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي سود غرابيب، فيما قَالَهُ نَظَرٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي كذلك

الصفحة 145