كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، الرجال بالنهارن وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ لَهُ)، وقال العوفي عن ابن عباس: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ، والزينةُ اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيِّدِ الْبَزِّ وَالْمَتَاعِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (وروي عن مجاهد وعطاء والنخعي وقتادة والسدي والضحّاك وغيرهم). وَلِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أفضل اللباس البياض، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدَ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشعر»، وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «عليكم بثياب الْبَيَاضِ فَالْبَسُوهَا فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا موتاكم». ويروى أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه.
وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: {وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا}، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خصلتان: سرف ومخيلة. وقال ابن عباس: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، مَا لَمْ يَكُنْ سرفاً أو مخيلة، وفي الحديث: «كلوا واشربوا وتصدقوا من غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يرى نعمته على عبده» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه)، وقال الإمام أحمد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (ورواه النسائي والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وفي الحديث: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشتهيت» (رواه الحافظ الموصلي والدارقطني وقال فيه: هذا حديث غريب). وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يحرمون عليهم الودك (الدسم) ما أقاموا في المواسم، فقال الله تعالى لهم: {كلوا واشربوا} الآية، يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {وَلاَ تسرفوا} ولا تأكلوا حراماً ذلك الإسراف، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين}، يقول الله تعالى: {إن الله لا يحب المعتدين} حَدَّهُ فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، الْغَالِينَ فِيمَا أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الْحَلَالِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحَلَّلَ مَا أَحَلَّ وَيُحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ به.
- 32 - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا -[16]- خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

يَقُولُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ أو المشارب أو الملابس مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَابْتِدَاعِهِمْ {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الْآيَةَ، أَيْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وعبده في الحياة الدينا، وإن شركهم فيها الكفار حساً في الدينا، فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ على الكافرين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} فأمروا بالثياب (رواه الطبراني عن ابن عباس).
فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ}، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أَيْ وَشَرَعَ اللَّهُ لَعْنَتَهُمْ وَلَعْنَةَ مَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَلْسِنَةِ المؤمنين من عبادة المتبعين لرسله كما أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَذَلِكَ، {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} قال قتادة: هذه الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرفد المرفود}.
- 43 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى الْكِلِيمِ، عَلَيْهِ مِنْ ربه أفضل الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا أهلك فرعون وملأه، وقوله تعالى: {من بعدما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} يَعْنِي أَنَّهُ بَعْدَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كما قال تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً}، وروى ابن جرير عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد مُوسَى، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري موقوفاً، ورواه البزار من طريق آخر عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا قَبْلَ مُوسَى ثُمَّ قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أَهْلَكْنَا القرون الأولى}) الآية، وقوله: {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} أَيْ مِنَ الْعَمَى وَالْغَيِّ، {وَهُدًى} إِلَى الْحَقِّ، {وَرَحْمَةً} أي إرشاد إلى العمل الصالح، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ لَعَلَّ النَّاسَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ ويهتدون بسببه.
- 44 - وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
- 45 - وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
- 46 - وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
- 47 - وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

يَقُولُ تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ أَخْبَرَ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ خَبَرًا كَأَنَّ سَامِعَهُ شاهدٌ وراءٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أنه لما أخبره عن مريم، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، ولما أخبره عن نوح وإغراق قومه، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} الآية. وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ يُوسُفَ {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ

الصفحة 15