كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

- 33 - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أَحَدَ أغيرَ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أحب إليه المدح من الله» (رواه أحمد والشيخان)، وقد تقدم الكلام عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بطن في سورة الأنعام. وَقَوْلُهُ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْإِثْمُ فَالْمَعْصِيَةُ، وَالْبَغْيُ أَنْ تَبْغِيَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِثْمُ الْمَعَاصِي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه عَلَى نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِثْمُ: أن الْخَطَايَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَاعِلِ نَفْسِهِ، وَالْبَغْيُ هُوَ التَّعَدِّي إِلَى النَّاسِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذَا وَهَذَا. وَقَوْلُهُ تعالى: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي تجعلوا له شركاء في عبادته، {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عن الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} الآية.
- 34 - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
- 35 - يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
- 36 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أَيْ قَرْنٍ وَجِيلٍ {أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} أَيْ مِيقَاتُهُمُ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، ثُمَّ أَنْذَرَ تَعَالَى بَنِي آدَمَ أنه سيبعث إليهم رسلاً يقصون عليهم آيايته وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ فَقَالَ: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} أَيْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَفَعَلَ الطَّاعَاتِ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا -[17]- وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ} أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ مَاكِثُونَ فِيهَا مُكْثًا مُخَلَّدًا.
ما قد سبق} الآية، وقال ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأمر} يعني ما كنت يا محمد بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى من الشجرة عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، {وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ ذلك، ليكون حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُرُونٍ قَدْ تَطَاوَلَ عَهْدُهَا، وَنَسُوا حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى الأنبياء المتقدمين، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، حِينَ أُخْبِرْتَ عن نبيها شعيب وما قاله لِقَوْمِهِ وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ وَلَكِنْ نَحْنُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلْنَاكَ إلى الناس رَسُولًا، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قيل: المراد أمة محمد، نودوا يا أمة محمد أعطيتهم قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي (أخرجه النسائي في سننه عن أبي هريرة موقوتاً، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم أيضاً)، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} موسى، وهذا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}، ثُمَّ أَخْبَرَ ههنا بِصِيغَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ النِّدَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى}، وقال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالوادي المقدس طوى}، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أَيْ مَا كُنْتَ مشاهداً لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وَبِالْعِبَادِ بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ، {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية، أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة، ولينقطع عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كما قال تَعَالَى: {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ ونذير} والآيات في هذه كثيرة.
- 48 - فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
- 49 - قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 50 - فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله إِن اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- 51 - وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن القوم أنه لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَاحْتَجُّوا بأنهم لم يأتهم رسول، فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا على وجه التعنت والعناد، والكفر والإِلحاد: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى} الآية، يعنون مِثْلَ الْعَصَا، وَالْيَدِ، وَالطُّوفَانِ، وَالْجَرَادِ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعِ، والدم، وتنقيص الزوع وَالثِّمَارِ مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ، التي أجرها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام، حجة وبرهاناً

الصفحة 16