كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ

يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بَعْدَ خُرُوجِهِ {وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ} مَعَهُ {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ} - أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ - {لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، عِنْدَ طِيبِ الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ، فَلِهَذَا قَالُوا: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ} لَهُمْ {نَارُ جَهَنَّمَ} الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا بمخالفتكم {أَشَدُّ حَرّاً} مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ مِنَ الْحَرِّ بَلْ أَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نار بني آدم التي توقدنها جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ، فَقَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم ومالك عن أبي هريرة)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ في البحر مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا منفعة لأحد» (أخرجه أحمد قال ابن كثير: إسناده صحيح). وروى الترمذي وَابْنُ مَاجَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوقد الله عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سوداء كالليل المظلم». وعن أنَس قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} قَالَ: «أُوقِدُ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا» (أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك)، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً للشوى}، وقال تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ من حديد}، وقال تعالى: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ليذوقوا العذاب}، وقال تعالى هنا: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يفقهون} (في اللباب: أخرج ابن جرير: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حر شديد، إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر، فنزلت: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ ... } الآية) أي أنهم لو يَفْقَهُونَ وَيَفْهَمُونَ لَنَفَرُوا مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ الله في الحر، ليتقوا به من حَرَّ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا، ولكنهم كما قال الشاعر:
* كالمستجير من الرمضاء بالنار *
ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الدُّنْيَا قَلِيلٌ، فَلْيَضْحَكُوا فِيهَا مَا شَاءُوا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَصَارُوا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ اسْتَأْنَفُوا بُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وقال الحافظ الموصلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فَتَسِيلَ الدِّمَاءُ فَتَقَرَّحُ الْعُيُونُ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أزجيت فيها لجرت» (رواه ابن ماجة والحافظ الموصلي).
قَوْمِهِ مِنَ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ
- 29 - إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ

قال ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُمْ وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ قصه مِنْ دُبُرِهِ، وَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فدخلها، فهو يرزق فيها قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ سُقْمَ الدُّنْيَا وَحُزْنَهَا وَنَصَبَهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لِحَبِيبٍ النَّجَّارِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ فَوَجَبَتْ لَهُ، فَلَمَّا رَأَى الثَّوَابَ {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا نَاصِحًا ولا تَلْقَاهُ غَاشًّا، لَمَّا عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ كرامة الله تعالى {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين
من كرامة الله وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصَحَ قومه في حياته بقوله: {يا قوم اتبعوا المرسلين}، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما)، وقال سفيان الثوري عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بِإِيمَانِي بِرَبِّي وَتَصْدِيقِي الْمُرْسَلِينَ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ لَوِ اطَّلَعُوا عَلَى مَا حَصَلَ لي مِنْ هَذَا الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ قَوْمِهِ. وقال محمد بن إسحاق، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ (حَبِيبُ بن زيد) الذي كان مسليمة الكذاب قطعه باليمامة، حين جعل يسأل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يقول له: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ، فيقول له مسليمة لعنه الله: أَتَسْمَعُ هَذَا وَلَا تَسْمَعُ ذَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ عُضْوًا عُضْوًا كُلَّمَا سَأَلَهُ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ، فَقَالَ كَعْبٌ حِينَ قِيلَ لَهُ اسْمُهُ حَبِيبٌ: وَكَانَ وَاللَّهِ صَاحِبُ يس اسْمَهُ حَبِيبٌ. وَقَوْلُهُ تبارك وتعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنَ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ انْتَقَمَ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ قَتْلِهِمْ إياه غضباً منه تبارك وتعالى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَقَتَلُوا وَلَيَّهُ، وَيَذْكُرُ عزَّ وجلَّ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَمَا احْتَاجَ فِي إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى إِنْزَالِ جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ، بَلِ الْأَمْرُ كَانَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ (قاله ابن مسعود والمعنى مَا كَاثَرْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ، الْأَمْرُ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ)، {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فأهلك الله تعالى ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَأَهْلَكَ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ، وَقِيلَ: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} أَيْ وَمَا كُنَّا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْأُمَمِ إِذَا أَهْلَكْنَاهُمْ، بَلْ نَبْعَثُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا يُدَمِّرُهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تعالى {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنَ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنْ رِسَالَةٍ أُخرى إليهم (قاله مجاهد وقتادة وقول ابن مسعود أظهر والله أعلم) قَالَ قَتَادَةُ: فَلَا وَاللَّهِ مَا عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُسَمَّى جُنْدًا.
قال المفسرون: بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَابِ بَلَدِهِمْ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هم خامدون عن آخرتهم لم تبق بهم رُوحٌ تَتَرَدَّدُ فِي جَسَدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ هِيَ (أَنْطَاكِيَةُ) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ كَانُوا رُسُلًا مِنْ عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام كما نص عليه قتادة وغيره، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا رُسُلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لَا مِنْ جِهَةِ المسيح عليه السلام كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا

الصفحة 160