كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

- 83 - فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} أَيْ رَدَّكَ اللَّهُ مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ {إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}: أَيْ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً}، أَيْ تعزيزاً لَهُمْ وَعُقُوبَةً، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزَاةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} أَيْ مَعَ النِّسَاءِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ جَمْعَ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَلَوْ أُرِيدُ النِّسَاءُ لَقَالَ: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَوَالِفِ أَوِ الْخَالِفَاتِ، وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما.
- 84 - وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ

أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْرَأَ من المنافقين، وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات، وأن لا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ؛ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي (عبد الله بن أبي سلول) رأس المنافقين. كما قال البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا توفي عبد الله ابْنُ أُبَيٍّ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فسأله أن يعيطه قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لهم} وسأزيده على سبعين"، قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ آيَةَ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (أخرجه البخاري ومسلم).
وعن عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وقف يريد الصلاة عليه تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (عَبْدِ اللَّهِ بن أبي) القائل يوم كَذَا وَكَذَا - يُعَدِّدُ أَيَّامَهُ -؟ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ، حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: "أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، لو أعلم أني لو زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ"، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَمَشَى مَعَهُ، وَقَامَ عَلَى قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ ما كان يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} الآية، فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قبره حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ (رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح)، وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَتَى ابْنُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
إِنَّآ إِلَيْكُمْ مرسلون}، وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ لَقَالُوا عِبَارَةً تُنَاسِبُ أَنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ لَوْ كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ لَمَا قَالُوا لهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}. الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ آمَنُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ إليهم، وكانت أَوَّلَ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ وَلِهَذَا كَانَتْ عِنْدَ النصارى إحدى المدائن الأربع اللَّاتِي فِيهِنَّ بِتَارِكَةٌ، وَهُنَّ (الْقُدْسُ) لِأَنَّهَا بَلَدُ المسيح، و (أنطاكية) لِأَنَّهَا أَوَّلُ بَلْدَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ عَنْ آخِرِ أهلها، و (الاسكندرية) لِأَنَّ فِيهَا اصْطَلَحُوا عَلَى اتِّخَاذِ الْبَتَارِكَةِ وَالْمَطَارِنَةِ والأساقفة والقساوسة، ثُمَّ (رُومِيَّةُ) لِأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلَكِ قُسْطَنْطِينَ الَّذِي نصر دينهم وأوطده، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ آمَنَتْ، فأهل هذه القرية ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَنَّهُ أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم، والله أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ قِصَّةَ أَنْطَاكِيَةَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الله تبارك وتعالى بَعْدَ إِنْزَالِهِ التَّوْرَاةَ، لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ عَنْ آخِرِهِمْ بِعَذَابٍ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، ذَكَرُوهُ عند قوله تبارك وتعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى}، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ الْمَذْكُورَةَ في القرآن قَرْيَةٌ أُخْرى غَيْرُ (أَنْطَاكِيَةَ) كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَيْضًا، أَوْ تَكُونُ أَنْطَاكِيَةُ إِنْ كَانَ لَفْظُهَا مَحْفُوظًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَدِينَةً أُخرى غَيْرَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهَا أُهْلِكَتْ لَا فِي الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم.
- 30 - يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 31 - أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ
- 32 - وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ

قَالَ ابن عباس {يا حسرة عَلَى الْعِبَادِ} أَيْ يَا وَيْلَ الْعِبَادِ، وَقَالَ قتادة: {يا حسرة عَلَى الْعِبَادِ} أَيْ يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أنفسهم، على ما ضيعت مِنْ أَمْرِ الله وفرطت فِي جَنبِ الله، والمعنى: يَا حَسْرَتَهُمْ وَنَدَامَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، كَيْفَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ وَخَالَفُوا أَمْرَ الله؟ فإنهم كانوا {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ يُكَذِّبُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيَجْحَدُونَ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أَيْ أَلَمْ يَتَّعِظُوا بِمَنْ أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، كيف لم يكن لَهُمْ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا كَرَّةٌ وَلَا رَجْعَةٌ، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أَيْ وَإِنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، سَتَحْضُرُ لِلْحِسَابِ يوم القيامة بين يدي الله جلَّ وعلا، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعنى هذا كقوله جلَّ وعلا {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}.
- 33 - وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
- 34 - وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ
- 35 - لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
- 36 - سُبْحَانَ الذِي خَلَق الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ

يَقُولُ تبارك وتعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ} أَيْ دَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى {الْأَرْضُ

الصفحة 161