كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا ورَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ وَجْهَهُ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ -. قال كَعْبٌ: فقلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظن أن ذلك سيخفى عليه مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزَاةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظلال، وَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أنجز مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، فَأَقُولُ لِنَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي، حَتَّى استمر بِالنَّاسِ الْجَدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُ، فَغَدَوْتُ بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم وَلَيْتَ أَنِّي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحزنني أني لا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالك»؟ فقال رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: حَبَسَهُ يَا رَسُولَ الله برداه والنظر في عطفيه، فقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رسول الله ما علمنا عنه إِلَّا خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بثي، وطفقت أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ غداً، وأستعين على ذلك بكل ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَمْ أَنْجُ مِنْهُ بشيء أبداً، فأجمعت صدقه. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُتَخَلِّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَوْ جَلَسْتُ عند غيرك
من الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسْخِطُكَ عَلِيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ بِصِدْقٍ تَجِدُ عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِيَ عُذْرٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَفْرَغُ وَلَا أَيْسَرُ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما هذا فصدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت، وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هذا، ولقد عجزت أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ مِنْ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: والله مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لقي معي هذا أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مثل مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لك، فقلت: فَمَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمية الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي؛
يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ؟ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مما أنكروا، كما قال عزَّ وجلَّ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكنَّ أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ثُمَّ بيَّن أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ شَيْءٍ ضَعِيفٍ فَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} قَالَ مجاهد وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْجَيِّدُ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وقال ابن عباس وعكرمة: هو اللزج الجيد، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بِالْيَدِ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أَيْ بَلْ عَجِبْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَأَنْتَ موقن مصدق بما أخبر الله تعالى مِنَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ إِعَادَةُ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا، وَهُمْ بِخِلَافِ أَمْرِكَ مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا تَقُولُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَخِرَ ضُلَّالُ بَنِي آدَمَ، {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً} أَيْ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى ذَلِكَ {يَسْتَسْخِرُونَ}، قَالَ مجاهد: يَسْتَهْزِئُونَ، {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الْأَوَّلُونَ}؟ يَسْتَبْعِدُونَ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ}، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تَصِيرُونَ تُرَابًا وَعِظَامًا، {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أَيْ حَقِيرُونَ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}، وقال تعالى: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، ثم قال جلت عظمته: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإنما هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، يدعوهم أَن يَخْرُجُواْ مِنَ الْأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
- 20 - وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ
- 21 - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
- 22 - احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ
- 23 - مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ
- 24 - وَقِفُوهُمْ إنهم مسؤولون
- 25 - مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ
- 26 - بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قَيْلِ الْكَفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَيَعْتَرِفُونَ بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم، فإذا عاينوا أهوال القيامة، ندموا كل الندامة حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، {وَقَالُواْ يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ}، فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} على وجه التقريع والتوبيخ، ويأمر الله تعالى الْمَلَائِكَةَ أَنْ تُمَيِّزَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فِي الْمَوْقِفِ فِي مَحْشَرِهِمْ وَمَنْشَرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ}، قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بشير: يَعْنِي بِأَزْوَاجِهِمْ أَشْبَاهَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ (وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وأبو العالية وغيرهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: {أزواجهم} نساؤهم، وهو غريب والمعروف عنه الأول)؛ وعن عمر بن الخطاب: {وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: إخوانهم، وقال النعمان: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} قال: أشباههم، قال: يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، وقال ابن عباس: {أَزْوَاجَهُمْ} قُرَنَاءَهُمْ، {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ تُحْشَرُ مَعَهُمْ في أماكنهم، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أَيْ أَرْشَدُوهُمْ إِلَى طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وهذا كقوله تعالى: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زنادهم سعيراً}، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} أي قفوهم
الصفحة 176