كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

وقعد معه معظم الناس. وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، {وما كَانَ لأَهْلِ المدينة} الآية، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو والذين تَخَلَّفُوا عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا إِلَى الْبَدْوِ إِلَى قَوْمِهِمْ يفقونهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}.
- 123 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أن يقاتلوا الكفار الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقَالِيمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا شَرَعَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فتجهز لغزو الروم لأنهم أَهْلَ الْكِتَابِ، فَبَلَغَ تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ لِأَجْلِ جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ اشتغل في السنة العاشرة بحجة الْوَدَاعِ، ثُمَّ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه بعد حجته بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِمَا عِنْدَهُ، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فأدى عَنِ الرَّسُولِ مَا حَمَلَهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الرُّومِ عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، وَإِلَى الفُرس عَبَدَةِ النِّيرَانِ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ سفارته البلاد، وأرغم أنف كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُمَا مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رسول الله، وَكَانَ تَمَامُ الْأَمْرِ عَلَى يَدِي وَصِيِّهِ مِنْ بعده، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، ثم لما مات أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى خِلَافَةِ عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار، فكسى الإسلام حُلَّةٍ سَابِغَةً، وَأُمِدَّتْ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى رقاب العباد حجة الله البالغة فظهر الْإِسْلَامُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. وَعَلَتْ كَلِمَةُ الله وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفة من أعداء الله غاية مآربها، وكلما عَلَوْا أُمَّةً انْتَقَلُوا إِلَى مِن بَعْدِهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنَ الْعُتَاةِ الْفُجَّارِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفَّار}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أَيْ وَلِيَجِدَ الْكُفَّارُ مِنْكُمْ غِلْظَةً عَلَيْهِمْ فِي قِتَالِكُمْ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ هُوَ الذي يكون رفيقاً بأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كقوله تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بينهم}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أنا الضحوك القتال» يعين أَنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وَجْهِ وَلِيِّهِ، قَتَّالٌ لِهَامَةِ عَدُوِّهِ. وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أَيْ قَاتِلُوا الْكُفَّارَ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الله معكم إذا اتَّقَيْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ لَمَّا كَانَتِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَالُوا ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ كثيرة، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ وَالِاخْتِلَافَاتُ بَيْنَ الملوك طمع الأعداء في البلاد، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا حَتَّى اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ من بلاد الإسلام، ولله الأمر مِن قَبْلُ وَمَن بعد.
يُنزَفُونَ} كما قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ ينزفون} نزّه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي فِي خَمْرِ الدُّنْيَا، مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ، وَوَجَعِ الْبَطْنِ، وَهُوَ (الْغَوْلُ) وَذَهَابِهَا بالعقل جملة، فقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أَيْ بِخَمْرٍ مِنْ أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ، لَا يَخَافُونَ انْقِطَاعَهَا وَلَا فراغها، قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَمْرٌ جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ، أَيْ لَوْنُهَا مُشْرِقٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ، لَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا فِي مَنْظَرِهَا الْبَشِعِ الرَّدِيءِ، مِنْ حُمْرَةٍ أَوْ سَوَادٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوْ كُدُورَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أَيْ طَعْمُهَا طَيِّبٌ كَلَوْنِهَا، وَطِيبُ الطَّعْمِ دَلِيلٌ عَلَى طِيبِ الرِّيحِ، بِخِلَافِ خمر الدنيا في جميع ذلك، وقوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} يعني وجع البطن (قاله ابن عباس ومجاهد وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ)، كَمَا تَفْعَلُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا، وقيل: المراد بالغول ههنا صداع الرأس، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ صُدَاعُ الرأس ووجع البطن؛ وقال السُّدِّيِّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا زَالَتِ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا * وَتَذْهَبُ بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا مَكْرُوهَ فِيهَا وَلَا أَذًى، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّهُ وَجَعُ البطن، وقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تذهب عقولهم (وكذا قال ابن عباس والحسن وعطاء والسدي)، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: (السُّكْرُ، والصداع، والقيء، والبول)، فذكر الله تعالى خمر الجنة، فنزّهها عن هذه الخصال، وقوله تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أَيْ عَفِيفَاتٌ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد، وقوله تبارك وتعالى: {عِينٌ} أَيْ حِسَانُ الْأَعْيُنِ، وَقِيلَ ضِخَامُ الْأَعْيُنِ، وَهِيَ النَّجْلَاءُ الْعَيْنَاءُ، فَوَصَفَ عُيُونَهُنَّ بِالْحُسْنِ وَالْعِفَّةِ، كقول زليخا في يوسف عليه السلام {ولقد روادته عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} أَيْ هُوَ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ عَفِيفٌ تَقِيٌّ نقي، وهكذا الحور العين {خَيْرَاتٌ حسان}، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ}. وقوله جلَّ جلاله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} وَصَفَهُنَّ بِتَرَافَةِ الْأَبْدَانِ بِأَحْسَنِ الألوان، قال ابن عباس {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يقول: اللؤلؤ المكنون، وأنشد قول الشاعر:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا * ص مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مكنون} يعين مصون لم تمسه الأيدي، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يعني بطن البيض، وَقَالَ السُّدِّيُّ {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يَقُولُ بَيَاضُ الْبَيْضِ حِينَ يُنْزَعُ قِشْرُهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِقَوْلِهِ {مَّكْنُونٌ} قَالَ: وَالْقِشْرَةُ الْعُلْيَا يَمَسُّهَا جَنَاحُ الطير والعش، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها، وفي الحديث عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا حَزِنُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ يومئذٍ بِيَدِي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزَّ وجلَّ وَلَا فَخْرَ، يَطُوفُ عَلِيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُنَّ الْبَيْضُ الْمَكْنُونُ - أَوِ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ -» (أخرجه ابن أبي حاتم وروى بعضه الترمذي).

الصفحة 179