كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
- 10 - سورة يونس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
- 2 - أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
أما الحروف المقطعة فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة.
وقال أبن عباس {الر} أي أنا الله أرى، وكذلك قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ الْمُبِينِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قَالَ: الْكُتُبُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وهذا القول لا أعرف وجهه ومعناه: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ تَعَجَّبَ مِنَ الكفار، ومن إِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عن القرون الماضين من قولهم: {أبشر يهدوننا}؟ وقال هود وصالح لقومهما: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ منكم}؟ وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عجاب}؟! وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ أَوْ مِن أَنْكَرَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} الآية، وَقَوْلُهُ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} اختلفوا فيه؛ فقال ابن عباس: سبقت لهم السعادة في الذكر، وقال العوفي عنه: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} يَقُولُ: أجراً حسناً بما قدموا (وهو قول الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أنَس وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)، وَقَالَ مجاهد: الأعمال الصالحة، صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، قال: ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم؛ وَقَالَ قَتَادَةُ سَلَفُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ التي قدموها، كما يقال: له قدم في الإسلام، كقول حسان:
لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا * لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ
وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا * مَعَ الْحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ
هَذَا فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ لَكَ، فَيَقُولُ: يَا سُبْحَانَ الله، أو بلغ مِنْ فَضْلِ عَمَلِي أَنْ أُثَابَ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ يَمُرُّ، فَإِذَا هُوَ بِقُبَّةٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ مُجَوَّفَةٍ فِيهَا حَوْرَاءُ عَيْنَاءُ، فَيَقُولُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: هَذِهِ لَكَ، فَيَقُولُ: يَا سبحان الله، أو بلغ مِنْ فَضْلِ عَمَلِي أَنْ أُثَابَ بِمِثْلِ هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنُ شَرِيكَهُ الْكَافِرَ، فَيَقُولُ: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}، قَالَ، فَالْجَنَّةُ عَالِيَةٌ، وَالنَّارُ هَاوِيَةٌ، قَالَ: فيريه الله تعالى شَرِيكَهُ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ عَرَفَهُ، فَيَقُولُ: {تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} بِمَثَلِ ما قد مُنَّ عَلَيْهِ، قَالَ: فَيَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُ مَا مَرَّ عليه في الدنيا من شدة، فَلَا يَذْكُرُ مِمَّا مَرَّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا من الشدة أشد عَلَيْهِ مِنَ الموت (أخرجه ابن أبي حاتم).
- 62 - أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
- 63 - إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
- 64 - إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجحيم
- 65 - طلعها كأنه رؤوس الشَّيَاطِينِ
- 66 - فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
- 67 - ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ
- 68 - ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
- 69 - إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَالِّينَ
- 70 - فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
يَقُولُ الله تعالى: أهذا الذي ذكر مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَآكِلَ وَمُشَارِبَ وَمَنَاكَحَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَاذِّ خَيْرٌ ضِيَافَةً وَعَطَاءً {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} أَيِ الَّتِي في جهنم؟ وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ}، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَتْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، فَافْتَتَنَ بِهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ، وَقَالُوا صَاحِبُكُمْ يُنْبِئُكُمْ أَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً وَالنَّارُ تأكل الشجر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} غذيت مِنَ النَّارِ وَمِنْهَا خُلِقَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا الزَّقُّومُ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ أَتَزَقَّمُهُ؟ قُلْتُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ إِنَّمَا أَخْبَرْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، اخْتِبَارًا تَخْتَبِرُ بِهِ النَّاسَ، مَنْ يُصَدِّقُ منهم ممن يكذب، كقوله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طيغاناً كَبِيراً} وقوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أَيْ أَصْلُ مَنْبَتِهَا فِي قَرَارِ النَّارِ: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رؤوس الشياطين} تبشيع لها وتكريه لذكرها، وإنما شبّهها برؤوس الشَّيَاطِينِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ أَنَّ الشَّيَاطِينَ قبيحة المنظر، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، الَّتِي لَا أَبْشَعَ مِنْهَا وَلَا أَقْبَحَ مِنْ مَنْظَرِهَا، مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَالطَّبْعِ، فَإِنَّهُمْ لَيَضْطَرُّونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، لأنهم لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ إياها وما هو فِي مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي من جوع}، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي بِحَارِ الدُّنْيَا لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ، فكيف بمن يكون طعامه؟» (أخرجه الترمذي وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ).
الصفحة 182