كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

الإحسان إلا الإحسان}؟ وقوله: {وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال ويشمل ما يعطيهم الله في الجنة مِنَ الْقُصُورِ وَالْحُورِ وَالرِّضَا عَنْهُمْ، وَمَا أَخْفَاهُ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَاهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ،
فَإِنَّهُ زِيَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا أُعْطُوهُ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُ الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم الجمهور من السلف والخلف، روى الإمام أحمد عن صهيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وَقَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى منادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة ويجرنا مِنَ النَّارِ؟ - قَالَ: فَيَكْشِفُ لَهُمُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ" (أخرجه أحمد ورواه مسلم وجماعة من الأئمة).
وعن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ - بِصَوْتٍ يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ وآخرهم - إِنَّ الله وَعَدَكُمْ الحسنى
وزيادة، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزَّ وجلَّ" (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم). وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: "الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وجه الله عزَّ وجلَّ"، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أَيْ قَتَامٌ وَسَوَادٌ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، كَمَا يَعْتَرِي وُجُوهَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ مِنَ الْقَتَرَةِ وَالْغَبَرَةِ، {وَلاَ ذِلَّةٌ} أي هوان وصغار، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أَيْ نَضْرَةً فِي وُجُوهِهِمْ وَسُرُوراً فِي قُلُوبِهِمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ آمِينَ.
- 27 - وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ يُضَاعِفُ لهم الحسنات عطف بذكر حال الأشقياء، فذكر تعالى عدله فِيهِمْ وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، {وَتَرْهَقُهُمْ} أَيْ تَعْتَرِيهِمْ وَتَعْلُوهُمْ ذِلَّةٌ مِنْ مَعَاصِيهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل} الآية، وقال تعالى: {مهطعين مقنعي رؤوسهم} الآية، وَقَوْلُهُ: {مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي مانع ولا واقٍ يقيهم العذاب، كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان يؤمئذ أَيْنَ المفر * كَلاَّ لا وزر}، وقوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} الآية إِخْبَارٌ عَنْ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، وقوله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} الآية.
- 28 - وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ ما كنتم
على أن مَنْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ، لِتَخِفَّ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ (يُونُسَ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُمْ يَضِنُّونَ بِهِ أَنْ يُلْقَى مِنْ بَيْنِهِمْ، فَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ، وَهُمْ يَأْبَوْنَ عليه ذلك، وأمر الله تعالى حوتاً أن يَلْتَقِمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يُهَشِّمَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا، فَجَاءَ ذَلِكَ الحوت وألقي يونس عليه السلام، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَذَهَبَ بِهِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَارَ كلها، ولما استقر فِي بَطْنِ الْحُوتِ حَسَبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَرَجْلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ، فَإِذَا هُوَ حي، فقام فصلى فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ دُعَائِهِ: «يَا رَبِّ اتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ»، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا لَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقِيلَ ثلاثة أيام، وقيل: سبعة، وقيل: أربعين يوماً، وقال مجاهد: التقمه ضحى ولفظه عشية، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك. وقوله تَعَالَى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قِيلَ: لَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الرَّخَاءِ، قَالَهُ الضحّاك واختاره ابن جرير. وفي الحديث: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشدة» (أخرجه الترمذي في سننه.). وقال ابن عباس وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} يعني المصلين، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فِي جَوْفِ أَبَوَيْهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} هو قوله عزَّ وجلَّ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}. روى ابن أبي حاتم عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرفعه -: "إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين، فأقبلت الدعوة تحن بِالْعَرْشِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ الله تعالى: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: يَا رَبِّ وَمَنْ هو؟ قال عزَّ وجلِّ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، قالوا: يا رب أو لا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيَهُ فِي الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بالعراء" (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ابن وهب.).
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَنَبَذْنَاهُ} أَيْ أَلْقَيْنَاهُ {بِالْعَرَاءِ}، قال ابن عباس: وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ بِهَا نَبْتٌ وَلَا بِنَاءٌ، قِيلَ: عَلَى جَانِبِ دِجْلَةَ، وَقِيلَ: بِأَرْضِ الْيَمَنِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، {وَهُوَ سَقِيمٌ} أَيْ ضَعِيفُ الْبَدَنِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كهيئة الصبي حين يولد، وهو المنفوس، {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} قَالَ ابْنُ مسعود وابن عباس: (اليقطين) هو القرع (وهو قول جمهور السلف.)، وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كُلُّ شَجَرَةٍ لَا سَاقَ لَهَا فَهِيَ مِنَ الْيَقْطِينِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كُلُّ شَجَرَةٍ تَهْلِكُ مِنْ عَامِهَا فَهِيَ مِنَ الْيَقْطِينِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْقَرْعِ فَوَائِدَ: مِنْهَا سُرْعَةُ نَبَاتِهِ، وَتَظْلِيلُ وَرَقِهِ لِكِبَرِهِ وَنُعُومَتِهِ، وَأَنَّهُ لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثَمَرِهِ، وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ نَيِّئًّا وَمَطْبُوخًا بِلُبِّهِ وَقِشْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يحب الدباء، ويتبعه مِنْ حَوَاشِي الصَّحْفَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}، روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن ابن عباس.)، وقال مُجَاهِدٍ: أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِمَهُ الْحُوتُ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهم أولاً أمر بالعودة إِلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ، فَصَدَّقُوهُ كُلُّهُمْ وَآمَنُوا بِهِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ:

الصفحة 191