كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
- 29 - فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إن كنا عن عبادتكم لغافلين
- 30 - هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أَيْ أَهْلَ الْأَرْضِ كلهم من جن وإنس وبر وفاجر، كقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحدا}، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} الآية، أَيْ الْزَمُوا أَنْتُمْ وَهَمَ مَكَانًا مُعَيَّنًا، امْتَازُوا فيه عن مقام المؤمنين، كقوله تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون}، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}، وفي الآية الأُخْرى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أَيْ يَصِيرُونَ صَدْعَيْنِ؛ وَهَذَا يَكُونُ إِذَا جَاءَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم، كقوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} الآية، وقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} الآية، {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، أَيْ مَا كُنَّا نَشْعُرُ بِهَا وَلَا نَعْلَمُ بها، وإنما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي بِكُمْ وَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنَّا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا وَلَا أَمَرْنَاكُمْ بِهَا وَلَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ الذين عبدوا مع الله غيره وقد تركوا عبادة الحي القيوم الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وقد أرسل رسله آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ نَاهِيًا عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}، وَقَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟}، وقوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} أَيْ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُخْتَبَرُ كُلُّ نَفْسٍ وَتَعْلَمُ ما سلف من عملها من خير وشر، كقوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر}، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك}، وَقَوْلُهُ: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} أَيْ وَرَجَعْتِ الْأُمُورُ كُلُّهَا إِلَى اللَّهِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، فَفَصَّلَهَا وَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أَيْ ذَهَبَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، {مَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ مَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ افْتِرَاءً عَلَيْهِ.
- 31 - قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
- 32 - فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
- 33 - كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
يَحْتَجُّ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِرَافِهِمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ على واحدنية إلاهيته، فقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مَنْ ذَا الَّذِي يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ المطر، فيشق الأرض شقاً يقدرته ومشيئته، فيخرج منها {حبا وعنبا وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ وقوله: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} أَيْ الَّذِي وَهَبَكُمْ هَذِهِ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ، وَالْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَلَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِهَا وَلَسَلَبَكُمْ إِيَّاهَا، كقوله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ}
أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحُوتِ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} قال ابن عباس: بل يزيدون، وكانوا مائة وثلاثين أَلْفًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَزِيدُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا؛ وَقَالَ مَكْحُولٌ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعَشَرَةَ آلاف، وقال ابن جرير، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال: يزيدون عشرين ألفاً (الحديث رواه ابن جرير وأخرجه الترمذي وقال: غريب.). وقد سلك ابن جرير ههنا مَا سَلَكَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كالجحارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، الْمُرَادَ لَيْسَ أَنْقَصُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَزْيَدُ، وقوله تعالى: {فَآمِنُواْ} أَيْ فَآمَنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعُهُمْ، {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي إلى وقت آجالهم، كقوله جلت عظمته {فلولا قرية كانت آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ}.
- 149 - فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ
- 150 - أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ
- 151 - أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
- 152 - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
- 153 - أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ
- 154 - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
- 155 - أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
- 156 - أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ
- 157 - فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 158 - وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
- 159 - سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
- 160 - إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ في جعلهم لله تعالى الْبَنَاتِ {سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ مِنَ الذُّكُورِ، أَيْ يَوَدُّونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْجَيِّدَ، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أي يسوؤه ذَلِكَ وَلَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا الْبَنِينَ. يَقُولُ عزَّ وجلَّ فكيف إذا نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْقِسْمَ الَّذِي لَا يختارونه لأنفسهم، ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أَيْ سَلْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ {أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون}؟ كقوله عزَّ وجلَّ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}، وقوله تبارك وتعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} أَيْ كَيْفَ حَكَمُوا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ وَمَا شاهدوا خلقهم كقوله جلَّ وعلا {وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويسألون} أَيْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ جلت عظمته {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} أَيْ مِنْ كَذِبِهِمْ {لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ} أَيْ صَدَرَ مِنْهُ الْوَلَدُ {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، فذكر الله تعالى عَنْهُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ: فَأَوَّلًا جَعَلُوهُمْ (بَنَاتِ اللَّهِ) فَجَعَلُوا لله ولداً تعالى وتقدس، ثُمّ جعلوا ذَلِكَ الْوَلَدَ (أُنْثَى) ثُمَّ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ الله تعالى وتقدس وَكُلٌّ مِنْهَا كَافٍ فِي التَّخْلِيدِ فِي نَارِ جهنم، ثم قال تعالى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} أَيْ: أيُّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين؟ كقوله عزَّ وجلَّ: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا؟ إنكم لقولون قولاً عظيماً}، ولهذا قال تبارك وتعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ أَيْ مَا لَكُمْ عُقُولٌ تَتَدَبَّرُونَ بِهَا مَا تَقُولُونَ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} أَيْ حُجَّةٌ عَلَى مَا تَقُولُونَهُ، {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ هَاتُوا بُرْهَانًا عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى كِتَابٍ مُنَزَّلٍ مِنَ
الصفحة 192