كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

لِأَحَدٍ بِهِ؛ وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ، وَحَلَاوَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ وَإِفَادَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ، فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ به وأفهمهم له وأشدهم له انقياداً.
لهذا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا». وَقَوْلُهُ: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تأويله} يقول: بل كذب هؤلاء بالقرآنن وَلَمْ يَفْهَمُوهُ وَلَا عَرَفُوهُ {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أَيْ وَلَمْ يُحَصِّلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إِلَى حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ جَهْلًا وَسَفَهًا، {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أَيْ فَانْظُرْ كَيْفَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً، فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} الآية، أَيْ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَيَتَّبِعُكَ وَيَنْتَفِعُ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ، {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} بَلْ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ وَيُبْعَثُ عَلَيْهِ، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أَيْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ. وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ فَيُضِلُّهُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، بَلْ يُعْطِي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس.
- 41 - وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
- 42 - وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ
- 43 - وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ
- 44 - إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ كَذَبَّكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
وَمِنْ عَمَلِهِمْ {فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}، كقوله تعالى عَنِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَأَتْبَاعُهُ لِقَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ: {إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}، وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أَيْ يَسْمَعُونَ كلامك الحسن والقرآن العظيم النافع في القلوب والأبدان، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ وَلَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ كما لا تقدر على إسماع الأصم، فَكَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ هَؤُلَاءِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ، {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَإِلَى مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ من الخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك، وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ كَمَا يَنْظُرُ غَيْرُهُمْ، وَلَا يَحْصُلُ لهم من الهداية شيء كما يَحْصُلُ لِغَيْرِهِمْ، بَلِ الْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الوقار، وهؤلاء الكفار يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، {وَإِذَا
رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} الآية، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا شَيْئاً، وَإِن كَانَ قَدْ هَدَى بِهِ مِنْ هدى وَبَصَّرَ بِهِ مِنَ الْعَمَى، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عمياء وآذاناً صماء وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَضَلَّ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ آخَرِينَ؛ فَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنفسهم يظلمون}.
- 45 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قوم فسآء صباح المنذرين» (أخرجه البخاري ومسلم عن أنس، ومعنى قولهم (محمد والخميس) أي محمد والجيش.)، وقوله تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 180 - سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
- 181 - وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ
- 182 - وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

يُنَزِّهُ تبارك وتعالى نفسه الكريمة ويقدسها، ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون، تعالى وتنزه وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} أَيْ ذِي الْعِزَّةِ الَّتِي لَا تُرَامُ {عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عَنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ الْمُفْتَرِينَ، {وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أَيْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة في كل حال، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا سلمتم عليَّ فسلموا عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلاً ورواه ابن أبي حاتم مسنداً عن أبي طلحة رضي الله عنه.). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان إذا أراد أن يسلم قَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ثم يسلم (أخرجه الحافظ أبو يعلى، قال ابن كثير: إسناده ضعيف، أقول: وله ما يؤيده من الشواهد الصحيحة.)، وروى ابن أبي حاتم عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بالميال الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسِهِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} " (أخرجه ابن أبي حاتم مرسلاً، وروي موقوفاً عن علي رضي الله عنه.). وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأتوب إليك، قال ابن كثير: وقد أفردت لها جزءاً على حدة، ولله الحمد والمنة.

الصفحة 195