كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

مِنَ الغابرين} أي الباقين، وقيل مَنَ الْهَالِكِينَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَقَوْلُهُ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}، وَلِهَذَا قَالَ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ من يجترئ على معاصي الله عزَّ وجلَّ ويكذب رُسُلَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُرْجَمُ سَوَاءً كَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْحُجَّةُ مَا رَوَاهُ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عمل لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه). وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَالزَّانِي فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ مِائَةَ جِلْدَةٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ فَهُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى، وَهُوَ حرام بإجماع العلماء إلا قولاً شاذاً لبعض السلف.
- 85 - وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كنتم مؤمنين

مدين تطلق عَلَى الْقَبِيلَةِ وَعَلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي بِقُرْبِ (معان) من طرق الحجاز (معان هي الآن بلدة شهيرة في شرق الأردن)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من الناس يسقون} وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، أَيْ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمُ النَّاسَ بِأَنْ يُوفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَلَا يَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ، أَيْ لَا يَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيَأْخُذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْبَخْسِ، وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ خُفْيَةً وَتَدْلِيسًا، كَمَا قال تعالى: {وَيْلٌ للمطففين - إلى قوله - لِرَبِّ العالمين} وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ) لِفَصَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَجَزَالَةِ مَوْعِظَتِهِ.
- 86 - وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
- 87 - وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

يَنْهَاهُمْ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} أي
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلَالَةِ (يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عيسى بن مريم، فقام مبشراً بالنبي العربي سيد وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ، مِنْ سُلَالَةِ (إسماعيل بن إبراهيم) عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه عليه أفضل الصلاة والسلام، وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْمَوْصُولَةِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ وَالْمَنْزِلُ الرَّحْبُ، وَالْمَوْرِدُ الْعَذْبُ، وَالزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ، وَالثَّنَاءُ الجميل، والذكر الحسن وكل أَحَدٍ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلَّاهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مَعَ الْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَى} أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَمَّلَ طاعة ربه، ولهذا قال تعالى: {وآتينا أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، وكما قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين - إلى قوله - وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}.
- 28 - وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكَمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ
- 29 - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 30 - قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ (لُوطٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَعْمَالِ، في اتباعهم الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَى هَذِهِ الفعلة أحد من نبي آدَمَ قَبْلَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَيُخَالِفُونَهُ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، أَيْ يَقِفُونَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، {وَتَأْتُونَ في ناديهم الْمُنْكَرَ} أَيْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الأقوال فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ قائل: كانوا يأتون بعضهم فِي الْمَلَأِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمِنْ قَائِلٍ: كَانُوا يتضارطون ويتضاحكون، روى الإمام أحمد عن أحمد عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وتأتون في ناديهم الْمُنْكَرَ} قَالَ: «يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» (أخرجه أحمد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وعن مجاهد {وَتَأْتُونَ في ناديهم المنكر} قال: الصفير ولعب الحمام وحل أزرار القباء، وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أن قال ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا من كفرهم واستهزئهم وَعِنَادِهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ نبيَّ اللَّهِ فَقَالَ: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}.
- 31 - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ
- 32 - قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
- 33 - وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ

الصفحة 35