كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

تتوعدون النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ السدي: كانوا عشارين، وعن ابن عباس ومجاهد {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}: أَيْ تَتَوَعَّدُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْآتِينَ إِلَى شُعَيْبٍ لِيَتَّبِعُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لأنه قال: {بِكُلِّ صِرَاطٍ} وهو الطريق، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} أَيْ وَتَوَدُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللَّهِ عِوَجًا مَائِلَةً، {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أَيْ كُنْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ لِقِلَّتِكُمْ فَصِرْتُمْ أَعِزَّةً لِكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ والقرون الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِاجْتِرَائِهِمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} أَيْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ عَلَيَّ {فَاصْبِرُوا} أي انتظروا {حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} وبينكم أَيْ يَفْصِلُ {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، فَإِنَّهُ سَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالدَّمَارَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
- 88 - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
- 89 - قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ

هَذَا خبر مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وَاجَهَتْ بِهِ الْكُفَّارُ نبيه شعيباً ومن معه من المؤمنينن وتوعدهم إياه ومن معه بالنفي عن الْقَرْيَةِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرُّجُوعِ فِي مِلَّتِهِمْ وَالدُّخُولِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ؛ وَالْمُرَادُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الْمِلَّةِ، وَقَوْلُهُ: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}؟ يَقُولُ: أَوَ أَنْتُمْ فَاعِلُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ رَجَعْنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَدَخَلْنَا مَعَكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فَقَدْ أَعْظَمْنَا الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ معه انداداً، وهذا تنفير منه على اتباعهم {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، وَهَذَا رَدٌّ إِلَى الله مستقيم فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أَيْ فِي أُمُورِنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ، {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق}، أي احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أَيْ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، فَإِنَّكَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ أَبَدًا.
- 90 - وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
- 91 - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
- 92 - الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شِدَّةِ كفرهم وَتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا أَقْسَمُوا وَقَالُوا: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}، فلهذا عقبه بِقَوْلِهِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}، أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدهم بالجلاء
- 34 - إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
- 35 - وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

لِمَا اسْتَنْصَرَ (لوط) عليه السلام بالله عزَّ وجلَّ عَلَيْهِمْ بَعَثَ اللَّهُ لِنُصْرَتِهِ مَلَائِكَةً، فَمَرُّوا عَلَى (إبراهيم)، عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءتهم بما ينبغي للضيف، فلما رأى إبراهيم أَنَّهُ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، فَشَرَعُوا يُؤَانِسُونَهُ وَيُبَشِّرُونَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ
مِنَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً فَتَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سورة هود والحجر، فَلَمَّا جَاءَتْ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ أَخَذَ يُدَافِعُ لَعَلَّهُمْ يُنْظَرُونَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلَمَّا قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً، قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَالِئُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وبغيهم، ثُمَّ سَارُوا مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلُوا عَلَى (لُوطٍ) في صورة شبان حِسَانٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ كَذَلِكَ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي اغتم بِأَمْرِهِمْ إِنْ هُوَ أَضَافَهُمْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُمْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، ولم يعلم بأمرهم إلاَّ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقتلع قراهم من قرار الأرض ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً خَبِيثَةً مُنْتِنَةً، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أَيْ وَاضِحَةً {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبالليل أفلا تعقلون}؟
- 36 - وإلى مدين أخاهم شعيبا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- 37 - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (شُعَيْبٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَهْلَ مَدْيَنَ فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخَافُوا بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ وَسَطْوَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} قال ابن جرير: معناه واخشوا اليوم الآخر، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر}، وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} نَهَاهُمْ عَنِ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَهُوَ السَّعْيُ فِيهَا وَالْبَغْيُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْقِصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، هَذَا مَعَ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرَجْفَةٍ عَظِيمَةٍ زَلْزَلَتْ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، وَصَيْحَةٍ أَخْرَجَتِ الْقُلُوبَ مِنْ حَنَاجِرِهَا، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ الَّذِي أَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ.
- 38 - وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وكانوا

الصفحة 36