كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}؛ وَقَالَ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أَيْ هَلْ تَرَى لَهُمْ شَخْصًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ صوتاً؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكير}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُلُولِ نِقَمِهِ بِأَعْدَائِهِ، وَحُصُولِ نِعَمِهِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَلِهَذَا عقب ذلك بقوله وهو أصدق القائلين.
- 101 - تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ
- 102 - وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ

لَمَّا قَصَّ تَعَالَى عَلَى نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وَمَا كَانَ مِنْ إِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {مِنْ أَنبَآئِهَا} أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا، {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ الحجج عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قائم وحصيد}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بالحق أول ما ورد عليهم، كَقَوْلِهِ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم} أَيْ لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ {مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أَيْ وَلَقَدْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ، خَارِجِينَ عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ،
وَأَخَذَ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، فَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، لَا مِنْ عقل ولا شرع.
قال تعالى: {واسأل من أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بما كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، عن أبي بن كعب قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ، أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ لِعِلْمِ الله منهم ذلك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كَرْهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، هَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} الآية.
- 103 - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} أَيِ الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ كَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ -[40]- اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ، {مُوسَى بِآيَاتِنَآ} أي بحجتنا وَدَلَائِلِنَا الْبَيِّنَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ - وَهُوَ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى - {وَمَلَئِهِ} أَيْ قَوْمِهِ، {فَظَلَمُواْ بِهَا} أَيْ جَحَدُوا وَكَفَرُوا بِهَا ظُلْمًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيِ الَّذِينَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ،
أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِمَرْأًى مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّكَالِ بِفِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَأَشْفَى لِقُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنَ المؤمنين به.
عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}؟ قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا هو؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكلبير فِي الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: لقد قلت قولاً عجيباً وَمَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابن عباس، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
- 46 - وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مُجَادَلَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ السَّيْفُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ باقية مُحْكَمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِبْصَارَ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَيُجَادِلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية. وهذا القول اختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} أَيْ حَادُوا عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْ وَاضِحِ الْمَحَجَّةِ، وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا، فحينئذٍ يُنْتَقَلُ مِنَ الْجِدَالِ إِلَى الْجِلَادِ، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم، قَالَ جَابِرٌ: أُمِرْنَا مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ إِنَّ نَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} يَعْنِي أَهْلَ الْحَرْبِ وَمَنِ امْتَنَعَ منهم من أداء الجزية، وقوله تعالى: {وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ فَهَذَا لَا نُقْدِمُ عَلَى تكذيبه لأنه قد يكون حقاً ولا تَصْدِيقِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ به إيماناً مجملاً، أخرج البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كان أهل الكتاب يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى دِينِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ، وروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرأونه مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب بدلوا وغيروا وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الذي أنزل عليكم. وحدّث معاوية رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، فقال: إن مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عليه الكذب (أخرجه البخاري موقوفاً على مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال ابن كثير: معناه أنه يقع منه الكذب مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ صُحُفٍ هو يحسن الظن فيها وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة).
- 47 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَّا الْكَافِرُونَ
- 48 - وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ

الصفحة 39