كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

{مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}، يَقُولُونَ: أَيَّ آيَةٍ جِئْتِنَا بِهَا وَدَلَالَةً وَحَجَّةً أَقَمْتَهَا، رَدَدْنَاهَا فَلَا نَقْبَلُهَا مِنْكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا بِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَثْرَةُ الْأَمْطَارِ الْمُغْرِقَةِ الْمُتْلِفَةِ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ (وَبِهِ قال الضحاك بن مزاحم وهو الأظهر)، وعنه: هو كثرة الموت، وقال مجاهد: {الطوفان} الماء والطاعون، وأما الجراد فمعروف ومشهور،
وَهُوَ مَأْكُولٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أوفى: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وأحمد وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الحوت والجراد والكبد والطحال". وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ} قَالَ: كَانَتْ تَأْكُلُ مَسَامِيرَ أَبْوَابِهِمْ وَتَدَعُ الخشب. وروى الحافظ أبو الفرج الحريري قَالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ الْجَرَادَةَ فِيهَا خِلْقَةُ سَبْعَةِ جَبَابِرَةٍ رَأَسُهَا رَأْسُ فَرَسٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ ثَوْرٍ، وَصَدْرُهَا صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجل جَمَلٍ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ حَيَّةٍ، وَبَطْنُهَا بَطْنُ عَقْرَبٍ.
وروى ابن ماجه عن أنس وجابر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ، وَاقْتُلْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزقنا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ» فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ نَثْرَةُ حوت في البحر» (أخرجه ابن ماجة في سننه). قال هشام: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ يَنْثُرُهُ الْحُوتُ. قَالَ مَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ: إِنَّ السَّمَكَ إِذَا بَاضَ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ فَنَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ وَبَدَا لِلشَّمْسِ أَنَّهُ يَفْقِسُ كُلُّهُ جَرَادًا طياراً. وَأَمَّا الْقُمَّلَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الذي يخرج من الحنطة، وعن الحسن: القمل دواب سود صغار، وقال ابن أَسْلَمَ: الْقُمَّلَ الْبَرَاغِيثُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: القُمَّل جَمْعٌ وَاحِدَتُهَا قُمَّلَةٌ وَهِيَ دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تأكل الإبل فيما بلغني.
وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ: أَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَطَرُ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا خَافُوا أَنْ يَكُونَ عَذَابًا، فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْمَطَرَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ،
فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْبَتَ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ شَيْئًا لَمْ يُنْبِتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ من الزروع والثمار وَالْكَلَأِ، فَقَالُوا: هَذَا مَا كُنَّا نَتَمَنَّى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَسَلَّطَهُ عَلَى الْكَلَأِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَثَرَهُ فِي الْكَلَأِ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُبْقِي الزَّرْعَ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ فيكشف عَنَّا الْجَرَادَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْجَرَادَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَاسُوا وَأَحْرَزُوا فِي الْبُيُوتِ فَقَالُوا قَدْ أَحْرَزْنَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ وَهُوَ (السُّوسُ) الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرِجُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ إِلَى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة، فقالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْقُمَّلَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَمِعَ نَقِيقَ ضِفْدَعٍ، فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ: مَا تَلْقَى أَنْتَ وقومك من هذا؟ فقال: وَمَا عَسَى أَن يَكُونَ كَيْدُ هَذَا؟ فَمَا أَمْسَوْا حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى ذَقْنِهِ في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضِّفْدَعُ فِي فِيهِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا هَذِهِ الضَّفَادِعَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا،
بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ، ثم صارت الدَّوْلَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَأَذَلَّ رِقَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ}؟ أَيْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّن كَذَبَ علَى الله، فقال إن الله أوحى إليه وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء، وَهَكَذَا لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ، فَالْأَوَّلُ مُفْتَرٍ وَالثَّانِي مُكَذِّبٌ، ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}، ثُمَّ قَالَ تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أَيْ لَنُبَصِّرَنَّهُمْ سُبُلَنَا أَيْ طُرُقَنَا فِي الدُّنْيَا والآخرة، وقوله: {وإن الله لَمَعَ المحسنين}.
روى ابن حاتم بسنده عن الشعبي قال، قال عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الإِحسان أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تحسن إلى من أحسن إليك، والله أعلم.

الصفحة 45