كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

{مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي الشَّامَ، وَقَوْلُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} قال مجاهد وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض} (وروي أيضاً عن ابن جرير وغيره وهو ظاهر) الآية، وَقَوْلُهُ: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعون من العمارات والمزارع {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} يبنون (قاله ابن عباس ومجاهد).
- 138 - وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
- 139 - إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ جَهَلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ جَاوَزُوا الْبَحْرَ وَقَدْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ مَا رَأَوْا {فَأَتَوْاْ} أَيْ فَمَرُّوا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ}. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانُوا مِنَ الكنعانين، قال ابن جرير: وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَلِهَذَا أَثَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَيْ تَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَجَلَالَهُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَالْمَثِيلِ {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أَيْ هالك {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكَفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. إنكم تركبون سننن من قبلكم" (رواه أحمد وابن أبي حاتم وأورده ابن جرير).
- 140 - قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
- 141 - وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ
يُذَكِّرُهُمْ موسى عليه السلام نعم الله عليهم، من أسر فرعون وقهره، وما فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالِاشْتِفَاءِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي حَالِ هَوَانِهِ وَهَلَاكِهِ وَغَرَقِهِ وَدَمَارِهِ، وَقَدْ تقدم تفسيرها في البقرة.
- 142 - وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
-[48]-
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى بَنِي إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكلميه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ وَفِيهَا أَحْكَامُهُمْ وَتَفَاصِيلُ شَرْعِهِمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى ثلاثين ليلة، فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم المقيات اسْتَاكَ بِلِحَاءِ شَجَرَةٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكْمِلَ بِعَشْرٍ أَرْبَعِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثلاثين هي (ذو القعدة) وعشر من ذي الحجة، روي عن ابن عباس وغيره، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمِيقَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحَصَلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا}، فلما تم المقيات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور استخلف على بني إسائيل أخاه (هارون) ووصاه بِالْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ وَإِلَّا فَهَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيٌّ شَرِيفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَلَالَةٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بعد عليهم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين} قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِين، قَالَ: صَدَقَ، قالوا: هل لك أَنْ نُقَامِرَكَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ فَمَضَتِ السَّبْعُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، ففرح المشركون بذلك، فشق عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ»؟ قَالُوا دُونَ الْعَشْرِ، قَالَ: «اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الْأَجَلِ» قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، ففرح المؤمنون بذلك وأنزل الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم - إلى قوله تعالى - وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وعده} (أخرجه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم والترمذي قريباً منه).
وقال عكرمة: لقي الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّكُمْ إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله تَعَالَى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ - إلى قوله - يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، فَلَا تَفْرَحُوا وَلَا يُقِرَّنَ اللَّهُ أَعْيُنَكُمْ، فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ إِلَيْهِ (أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أكذب يا عدو الله، فقال: أناجيك عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غَرِمْتَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ فَزَايِدْهُ في خطر، ومادَّه فِي الْأَجَلِ»، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَقِيَ أُبَيًّا فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ فَقَالَ: لَا، تَعَالَ أُزَايِدْكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادَّكَ فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مائة قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ قَبْلَ ذَلِكَ فَغَلَبَهُمُ المسلمون.
ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِ، وَالْيُونَانُ مِنْ سُلَالَةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ أَبْنَاءِ عَمِّ التُّرْكِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يُقَالُ لَهُ (قَيْصَرُ)، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ في دين النصارى من الروم (قسطنطين)، وأمه
مريم الهيلانية مِنْ أَرْضِ حَّران كَانَتْ قَدْ تَنَصَّرَتْ قَبْلَهُ فَدَعَتْهُ إِلَى دِينِهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفًا، فتابعها، وَاجْتَمَعَتْ بِهِ النَّصَارَى وَتَنَاظَرُوا فِي زَمَانِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كثيراُ لا ينضبط، إلاّ أنه اتفق جماعتهم ثلثمائة وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، فَوَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ الْعَقِيدَةَ،
وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ) وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ الْقَوَانِينَ يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَحْكَامِ من تحريم وتحليل وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَغَيَّرُوا دِينَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، فصلوا إِلَى الْمَشْرِقِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ السَّبْتِ بِالْأَحَدِ، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ، وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَاتَّخَذُوا أَعْيَادًا أَحْدَثُوهَا، كَعِيدِ الصَّلِيبِ وَالْقِدَّاسِ وَالْغِطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ

الصفحة 47